تتسلل أشعة الشمس على أحياء البلدة القديمة في مدينة غزة، تُوقظ الحياة داخلها، حاملةً عراقة التاريخ وعبق المكان بمبانيه العتيقة، هو بعض ما تبقى من التراث والآثار في القطاع الساحلي المحاصر. مشاهد حضارية وصور مختلفة تأسر الروح، رغم البُؤس الذي غطّى ملامح سكان المدينة.
جولةُ بسيطة داخل البلدة تمنح الهدوء بعيدًا عن ضجيج القطاع العامر بالأزمات.
بينما الحياة في غزّة باتت مُرّة على سكانها، تصحو وحيدًا، لا حياة تَرسم وجهك في الصباح سوى خيوط الشمس الدافئة. تأخذ جولة هادئة في أحياء البلدة القديمة، تَجعلك تتنفس تاريخًا؛ تمحو ما حلّ من بؤس، ولو مؤقتًا، تسير بين شوارعها العبِقة بالمباني العتيقة، واختلاف المعالم، وصورة الكنيسة المقابلة لمئذنة المسجد، شاهدة.
تضم البلدة القديمة، شرقي مدينة غزة، أربعة أحياء، هي الدرج، والزيتون، والشجاعية، والتفاح، وتضم حوالي 150 بيتًا سكنيًا، وتمثل ما نسبته 80 في المائة مما تضمه من مبانٍ تقليدية قديمة، أمّا الباقي فهو مساجد وكنائس وزوايا أثرية، ومدارس وأسواق شعبية ومقابر، بحسب إحصائية قامت بها وزارة السياحة والآثار في غزة.
يكفي أن تختصر جولتك بالمُرور من سوق الزاوية، وسط البلدة القديمة، تمر من بين جنباته، ورائحة الأعشاب والزعتر تَأسرك عنوةً. تُلامس شيئًا مما بقي في حب هذه المدينة. الصباح المتبادل، أصوات أقفال المحال التي تُفتح، صورة طفل يحمل حقيبته المدرسية، ورائحة القهوة التي تتوزع، وعلى مدى سَمعك تصدح "فيروز".
داخل أحد المحال القديمة، يجلس الحاج غازي الريس وثلاثة من أصدقائه، يتبادلون أطراف الحب في حديثهم عن ذكرياتهم، و"غلاية" القهوة تَجمع روحهم منذ سبع سنوات، من دون انقطاع. اللافت في أمرهم جميعًا، أنهم ليسوا من سكان البلدة، بينما يأتون من أطراف قطاع غزة، كل صباح، إلى المكان.
يقول الريس لـ "العربي الجديد": "نحن نأتي كل صباح لنشرب فنجان القهوة مع بعضنا، نحن تربطنا علاقة صداقة منذ عشرات السنوات. هنا في هذا المكان نشعر بالراحة، بالهدوء، بالاستقرار النفسي.. نتحدث، نتذكر الماضي.. ولا نُطيل، عند الساعة العاشرة صباحًا نُقفل المكان ونعود لبيوتنا، ونلتقي في اليوم التالي".
أحدهم، يُدعى محمد عبد العزيز، كان يعمل مديرًا لدائرة الترخيص في غزة، قبل أن يتقاعد عن العمل في عام 2007. يأتي من بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، إلى شرقه، وتحديدًا المكان الذي يجلسون فيه بالبلدة القديمة، يقول لـ "العربي الجديد": "لقد اعتدت على المجيء هنا كل يوم، لو لم يكن في الصباح، أعود في ساعات العصر.. هنا راحة نفسية لا تُوصف".
تُلقي التّحية منصرفًا، وتعود للسير، يسرق عينك المسجد العمري الكبير، أحد أقدم المعالم الأثرية في غزة. تمر من بين زقاق ضيّق يلاصقه، به محال لبيع الذهب، اللَون الأصفر داخله يأسر روحك، رحلتك فيه لا تتجاوز 60 مترًا. تنهيه مُطلاً على شارع "عمر المختار"، أوسع كثيرًا، وبه عشرات المحال التجارية.
تتجاوز الشارع، وتذهب باتجاه الأزّقة المقابلة، لا صوت يُسمع، سوى وقع الأقدام، ولا أجمل من مشهد الأحجار الرملية والبيوت الطينية والرخامية، التي تبعث سلامًا يمحو بؤس الحياة في القطاع المنكوب. المشاهد كلها قديمة، والبساطة تَغلب صورة الناس، البيوت، الحياة، الأحجار.
اقــرأ أيضاً
داخل البلدة القديمة، جارٌ مسيحي لعائلة مسلمة، وأمامهم مسجد وكنيسة، والساحة بينهما يتشارك فيها الجاران. لم يّتغير شيءٌ في الحياة هنا، سوى أنها فَقدت شيئًا من ذلك الحب القديم. على الناحية الهادئة، يجلس أبو خالد البكري، وجاره، يتبادلان الحديث، ومن يَمر أمامهما يرمي السّلام نحوهما، هو الحُب المتبقي في المكان.
يتذكر البكري حياة الماضي في البلدة القديمة، التعاون والحب المتشارك بين الناس، لا شيء تَغير في الملامح سوى أن وجوه الناس فقدت الحُب بفعل الغّرق في الهموم والحياة البائسة، يقول لـ "العربي الجديد": "هنا لا تمييز، ولا جو للضغائن، لا مشاكل، حياة هادئة وجو من الألفة، لكنها بالتأكيد ليست كالماضي، الظروف تغيّرت".
صورةٌ يؤكدها مشهد حاج يجلس مع اثنين آخرين أمام محلّه، والصمت دائر، وحدها الشمس من تُلاطفهم. تقترب لترى لافتة صغيرة كُتب عليها "زكريا الجيار لتصليح ماكينات الخياطة"، وعليها ذلك باللغة العبرية، رَفض أن نلتقط صورة له، بدا بائسًا وحائرًا.
تبيّن أنه منذ 50 عامًا وهو يعمل في المجال، لكن السنوات الأخيرة رسَمت البؤس عليه، مع إنهاء حقبة عمل الخيّاطين في غزة، مع تشديد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة منذ عام 2007. بينما محلّه الضيق يخبئ ماكينات من مئات السنين، وصَل عمر إحداها إلى 250 عامًا.
جولةُ بسيطة داخل البلدة تمنح الهدوء بعيدًا عن ضجيج القطاع العامر بالأزمات.
بينما الحياة في غزّة باتت مُرّة على سكانها، تصحو وحيدًا، لا حياة تَرسم وجهك في الصباح سوى خيوط الشمس الدافئة. تأخذ جولة هادئة في أحياء البلدة القديمة، تَجعلك تتنفس تاريخًا؛ تمحو ما حلّ من بؤس، ولو مؤقتًا، تسير بين شوارعها العبِقة بالمباني العتيقة، واختلاف المعالم، وصورة الكنيسة المقابلة لمئذنة المسجد، شاهدة.
تضم البلدة القديمة، شرقي مدينة غزة، أربعة أحياء، هي الدرج، والزيتون، والشجاعية، والتفاح، وتضم حوالي 150 بيتًا سكنيًا، وتمثل ما نسبته 80 في المائة مما تضمه من مبانٍ تقليدية قديمة، أمّا الباقي فهو مساجد وكنائس وزوايا أثرية، ومدارس وأسواق شعبية ومقابر، بحسب إحصائية قامت بها وزارة السياحة والآثار في غزة.
يكفي أن تختصر جولتك بالمُرور من سوق الزاوية، وسط البلدة القديمة، تمر من بين جنباته، ورائحة الأعشاب والزعتر تَأسرك عنوةً. تُلامس شيئًا مما بقي في حب هذه المدينة. الصباح المتبادل، أصوات أقفال المحال التي تُفتح، صورة طفل يحمل حقيبته المدرسية، ورائحة القهوة التي تتوزع، وعلى مدى سَمعك تصدح "فيروز".
داخل أحد المحال القديمة، يجلس الحاج غازي الريس وثلاثة من أصدقائه، يتبادلون أطراف الحب في حديثهم عن ذكرياتهم، و"غلاية" القهوة تَجمع روحهم منذ سبع سنوات، من دون انقطاع. اللافت في أمرهم جميعًا، أنهم ليسوا من سكان البلدة، بينما يأتون من أطراف قطاع غزة، كل صباح، إلى المكان.
يقول الريس لـ "العربي الجديد": "نحن نأتي كل صباح لنشرب فنجان القهوة مع بعضنا، نحن تربطنا علاقة صداقة منذ عشرات السنوات. هنا في هذا المكان نشعر بالراحة، بالهدوء، بالاستقرار النفسي.. نتحدث، نتذكر الماضي.. ولا نُطيل، عند الساعة العاشرة صباحًا نُقفل المكان ونعود لبيوتنا، ونلتقي في اليوم التالي".
أحدهم، يُدعى محمد عبد العزيز، كان يعمل مديرًا لدائرة الترخيص في غزة، قبل أن يتقاعد عن العمل في عام 2007. يأتي من بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، إلى شرقه، وتحديدًا المكان الذي يجلسون فيه بالبلدة القديمة، يقول لـ "العربي الجديد": "لقد اعتدت على المجيء هنا كل يوم، لو لم يكن في الصباح، أعود في ساعات العصر.. هنا راحة نفسية لا تُوصف".
تُلقي التّحية منصرفًا، وتعود للسير، يسرق عينك المسجد العمري الكبير، أحد أقدم المعالم الأثرية في غزة. تمر من بين زقاق ضيّق يلاصقه، به محال لبيع الذهب، اللَون الأصفر داخله يأسر روحك، رحلتك فيه لا تتجاوز 60 مترًا. تنهيه مُطلاً على شارع "عمر المختار"، أوسع كثيرًا، وبه عشرات المحال التجارية.
تتجاوز الشارع، وتذهب باتجاه الأزّقة المقابلة، لا صوت يُسمع، سوى وقع الأقدام، ولا أجمل من مشهد الأحجار الرملية والبيوت الطينية والرخامية، التي تبعث سلامًا يمحو بؤس الحياة في القطاع المنكوب. المشاهد كلها قديمة، والبساطة تَغلب صورة الناس، البيوت، الحياة، الأحجار.
داخل البلدة القديمة، جارٌ مسيحي لعائلة مسلمة، وأمامهم مسجد وكنيسة، والساحة بينهما يتشارك فيها الجاران. لم يّتغير شيءٌ في الحياة هنا، سوى أنها فَقدت شيئًا من ذلك الحب القديم. على الناحية الهادئة، يجلس أبو خالد البكري، وجاره، يتبادلان الحديث، ومن يَمر أمامهما يرمي السّلام نحوهما، هو الحُب المتبقي في المكان.
يتذكر البكري حياة الماضي في البلدة القديمة، التعاون والحب المتشارك بين الناس، لا شيء تَغير في الملامح سوى أن وجوه الناس فقدت الحُب بفعل الغّرق في الهموم والحياة البائسة، يقول لـ "العربي الجديد": "هنا لا تمييز، ولا جو للضغائن، لا مشاكل، حياة هادئة وجو من الألفة، لكنها بالتأكيد ليست كالماضي، الظروف تغيّرت".
صورةٌ يؤكدها مشهد حاج يجلس مع اثنين آخرين أمام محلّه، والصمت دائر، وحدها الشمس من تُلاطفهم. تقترب لترى لافتة صغيرة كُتب عليها "زكريا الجيار لتصليح ماكينات الخياطة"، وعليها ذلك باللغة العبرية، رَفض أن نلتقط صورة له، بدا بائسًا وحائرًا.
تبيّن أنه منذ 50 عامًا وهو يعمل في المجال، لكن السنوات الأخيرة رسَمت البؤس عليه، مع إنهاء حقبة عمل الخيّاطين في غزة، مع تشديد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة منذ عام 2007. بينما محلّه الضيق يخبئ ماكينات من مئات السنين، وصَل عمر إحداها إلى 250 عامًا.