حين يغرق آلاف المهاجرين في عرض البحر وهم يحاولون الفرار من دولهم في أفريقيا ومن مراكز الاحتجاز في ليبيا وغيرها، بحثاً عن أمل بحياة أفضل في أوروبا، وتنتشلهم سفن الإنقاذ أو خفر السواحل، يصبحون جثثاً بلا أسماء ولا هوية، وتغوص أسرهم في دوامة البحث والانتظار لمعرفة مصيرهم المجهول.
الأخصائية بعلوم الطب الشرعي، الإيطالية كريستينا كاتانيو، تعمل منذ سنوات في إطار مشروع إنشاء قاعدة بيانات أوروبية لفهرسة الحمض النووي لضحايا المراكب والقوارب المطاطية ممن عثر على جثثهم وهم بالآلاف، مع اشتداد أزمة الهجرة نحو دول الاتحاد الأوروبي منذ عام 2011.
وفي مقابلة أجرتها معها وكالة "فرانس برس" يوم الأحد الماضي، أوضحت كاتانيو "إن آلاف المهاجرين الذين ماتوا أثناء محاولتهم الوصول إلى شواطئ أوروبا في السنوات الأخيرة يستحقون مثلهم مثل أي من ضحايا الكوارث الآخرين، لجهد متضافر لمعرفة من هم، وإخبار عائلاتهم بالحقيقة المؤلمة حول مصيرهم".
وتقول: "يجب تحديد هوية القتلى- ليس من أجل الموتى، فهم رحلوا، بل من أجل الأحياء. يجب على الناس دفن موتاهم وتحديد هويتهم والحزن على فقدانهم".
منذ عام 2013، بدأت كريستينا معركتها، حين كانت ترأس مختبر جامعة ميلانو، وشرعت في تجميع تفاصيل من حياة هؤلاء "المجهولين"، وما بقي منهم من صور أو رسائل حب أو تقارير مدرسية وقطع الملابس، حقائب كانوا يحملونها معهم، وبقيت سابحة في مياه البحر المتوسط أو على القوارب المتهالكة وبقاياها.
— AFP news agency (@AFP) September 8, 2019 " style="color:#fff;" class="twitter-post-link" target="_blank">Twitter Post
|
وتشير إلى أن العديد من الضحايا الأصغر سنًا من إريتريا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، على وجه الخصوص، يحملون معهم أكياسًا صغيرة من تراب أوطانهم، تماماً مثلما كنت أحمل معي أوراق الأشجار والأزهار وأنا طفلة، في رحلاتنا الصيفية إلى إيطاليا بعد انتقالنا إلى كندا". وتضيف "كنت أضعها في جيبي لتذكيري بالمكان الذي أحببته(...) وإذا استطاع الناس أن يروا ما كان لدى هؤلاء المراهقين في جيوبهم، فإنهم سيفهمون أنهم بالفعل نحن".
قصة القارب الغارق عام 2013
الحادث الذي حفز انطلاقة العمل بقاعدة البيانات الأوروبية للحمض النووي لهؤلاء الأشخاص الغرقى، كان غرق قارب يحمل أكثر من 500 مهاجر غير شرعي قبالة جزيرة لامبيدوزا في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2013، أودى بحياة أكثر من 360 شخصًا، معظمهم من الإريتريين. انطلق القارب يومها من مصراتة في ليبيا إلى إيطاليا، وأغلب المهاجرين على متنه كانوا من إريتريا والصومال وغانا. شارك خفر السواحل الإيطالي بعمليات الإنقاذ التي أسفرت عن نجاة 155 مهاجراً. واستمرت عمليات البحث، وفي 12 أكتوبر أبلغ أن عدد الجثث المنتشلة أكثر من 360 شخصاً.
— Agence France-Presse (@afpfr) September 10, 2019
" style="color:#fff;" class="twitter-post-link" target="_blank">Twitter Post
— Agence France-Presse (@afpfr) September 10, 2019
|
وفي 11 أكتوبر تحطم قارب آخر لامبيدوزا أيضاً، وكان يحمل أكثر من 200 مهاجر من سورية وفلسطين، وتأكدت وفاة 34 شخصًا منهم على الأقل.
أثار الحادث الأول رد فعل سياسيا وأمميا واهتم الإعلام بنقل تفاصيله إلى أن كشف في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 عن شبكة التهريب التي ابتزت واغتصبت وعذبت المهاجرين، وتقاضت الأموال قبل الإبحار بالمهاجرين اليائسين. وأعلن عن أسماء أعضاء الشبكة ومنهم تونسي يدعى خالد بن سالم(35 عاماً) اعتقل وحمّل مسؤولية غرق القارب. أما الحادث الثاني فقد صوب الأنظار نحو سلوك خفر السواحل الليبي، الذي أطلق النار على القارب بشهادة المهاجرين، واعتقل المهرب الفلسطيني عطور عبد المنعم. وناشدت إيطاليا الدول الأوروبية للمساعدة في إيواء واستقبال الناجين منهم.
التمويل والاعتراف
تشير كاتانيو إلى أن عمل فريقها الشاق أسفر حتى اليوم عن الحصول على عينات من الحمض النووي لـ 528 من ضحايا القوارب الغارقة الذين تم دفنهم منذ ذلك الحين، واستخلصت من مجموعة مؤلفة من 20 ألف قطعة من العظام، ولكن تم تحديد أسماء 40 مهاجرا فقط.
ويبدو أن فرص الحصول على تمويل من الاتحاد الأوروبي ضئيلة، مع وجود خلافات بين الدول الأعضاء حول كيفية مشاركة عبء الوافدين الجدد ومساعدتهم والسماح لهم بالبقاء وبناء حياة جديدة.
وتقول المختصة بالطب الشرعي "نحتاج حقاً إلى الحكومات للاعتراف بالمشكلة ومن ثم لدينا مراكز ونقاط اتصال في أوروبا وأفريقيا، حيث يمكن للأقارب الذين يبحثون عن موتاهم أن يأتوا لتقديم المعلومات"، مضيفة "حتى لو كان هذا العمل يتعلق بشخص ميت، فإننا نرى أن عملنا قد يحقق بعض الخير وله هدف".
— MSF Sea (@MSF_Sea) September 5, 2019 " style="color:#fff;" class="twitter-post-link" target="_blank">Twitter Post
|
وتحث كاتانيو الدول والمؤسسات الأوروبية الأخرى على زيادة التمويل، وتوفير المزيد من الخبرات لتعزيز جهود تحديد الهوية، لافتة إلى مساعي فريقها لتأمين التمويل من حفنة من الجامعات والمؤسسات الدينية وكذلك مؤسسة مصرفية، وهي عمليات تسير ببطء.
وتقول في المقابلة "لا يزال يتعين علينا القيام بالكثير من العمل، لكن ما أنجزناه يثبت أنه يمكن التعرف عليهم". وتتابع "أوروبا هي الوحيدة التي لديها الأدوات والقدرة على حل هذه القضية، وهو واجب عليها. إنها مسألة حقوق إنسان".
— Valerio De Cesaris (@ValerioDeC) September 5, 2019
" style="color:#fff;" class="twitter-post-link" target="_blank">Twitter Post
— Valerio De Cesaris (@ValerioDeC) September 5, 2019
|
الهجرة بحراً لا تتوقف
تشديد قوانين الهجرة إلى دول الاتحاد الأوروبي لا يمنع قوارب المهاجرين من محاولة الوصول إلى سواحل القارة العجوز. هي موجة لم تستطع القوانين الرادعة وقوات خفر السواحل وتجييش الشرطة الأوروبية وقفها. ويتحدى هولاء المخاطر واحتمالات الموت غرقاً، وهذا ما يحصل في كثير من الأحياة.
العمل الذي ينتظر كاتانيو وفريقها ضخم ولا يصل إلى هدفه إلا إذا حصلوا على الدعم المالي واللوجستي الكافي.
وتخبر الطبيبة أن أكثر من 300 أسرة قدمت معلومات عن أقاربها المهاجرين في البحر، على أمل معرفة ما إذا كانوا بين الغارقين، وغالبًا بمساعدة مكاتب الصليب الأحمر الدولية في جميع أنحاء أفريقيا". وتؤكد أنهم "ما زالوا يأتون، هذه مجرد بداية".
وتختم كاتانيو أنه بالنسبة لعائلات أحبائهم الذين فقدوا في البحر المتوسط، يمكن أن توفر شهادة الوفاة إحساسًا بأن ملفهم أغلق وقضيتهم وصلت إلى خواتيمها. وتعتبر أن الشهادات يمكن أن تكون حاسمة في إثبات الوفاة والحصول على مساعدة مالية، خصوصاً للأرامل. ويمكنهم أيضًا المساعدة في جمع شمل أيتام الضحايا الذين ما زالوا يعيشون بجوار أقربائهم.