ربّما لم يمّر في تاريخ الفنّ المعاصر، فنان مثل الإسباني الأندلسي بابلو بيكاسو. بيكاسو الحاذق اللامع، صاحب الضربات القوية المباغتة، أثّر لا في الفنّ المعاصر ومجايليه فحسب، بل امتدّ تأثيره إلى اليوم. ولعلّ صاحب الدم الإسباني الحار، غدا بطرق تمرّده على تقليدية اللوحة والمنحوتة، وجنوحه لاستعمال كل ما يخطر في البال لتنفيذها، غدا رمزًا "كلاسيكيًا". هذا ما يخبره على الأقل، المعرض المقام في "القصر الكبير" في باريس، تحت عنوان PICASSO.MANIA، أو الهوس ببيكاسو.
بيكاسو شغفٌ لا ينتهي
سأل صحفي مرّة بيكاسو :"هل تعتقد أنك ستواصل الرسم، خلال فترة طويلة، بهذه الطريقة؟"، فأجاب الفنان الأندلسي: "أفعل هذا طول الوقت، ومنذ فترة طويلة ومن دون توقّف. إنه هَوَس حقيقي". من هذا الرد، اقتُبس عنوان هذا المعرض الضخم، الذي تكاتفت هيئات ثقافية ثلاث لإنجازه، وتقديمه لجمهور : "القصر الكبير" و"مركز جورج بومبيدو" و"المتحف الوطني/ بيكاسو باريس".
إلا أن هذا العنوان لم يرق على ما يبدو للفنانة التشكيلية والمخرجة السينمائية الفرنسية أنييس فاردا (1928)، التي علّقت قائلة :"إنه اختيار سيئ"، لأن الأمر لا يتعلق بـ"هوس"، بأي طريقة كانت. ولكن، بالعكس، إذ إن جميع الفنانين أعلنوا عن حبّهم للفنان الكبير. وكان الأولى أن يكون العنوان "حب بيكاسو".
الحب والامتنان الكبير للفنان بابلو بيكاسو، الذي حاز اعترافًا عالميًا بقيمة أعماله، خاصّة من قبل الفنانين أنفسهم، الذين يقرّ كثير بعجزهم عن مجاراة بيكاسو، ناهيك عن تجاوز صنيعه. فأندي وارهول على سبيل المثال، اعترف بذلك غداة موت بيكاسو: "حين مات بيكاسو، قرأتُ في مجلة بأنه أنجز 4000 تحفة فنية في حياته، فقلتُ لنفسي، أنا أستطيع فعل ذلك في يوم واحد". وحين حاول وارهول إنجاز ما وعد نفسه، كانت النتيجة 500 عمل فني في قرابة شهر.
المعرض في الصحافة
أمران اثنان أدّيا على ما يبدو إلى كيل مدائح كثيرة لمعرض "الهوس ببيكاسو" : شهرة الفنان وجاذبية أعماله من جهة، والسمعة الجيدة التي حازها "القصر الكبير" في إقامة معارض ضخمة، ذات نجاحات كبيرة من جهة ثانية. إلا أن بعض الانتقادات وجدت طريقها إلى أشهر المنابر الصحفية الفرنسية، وعلى رأسها صحيفة لوموند، وصحيفة لاكروا، ومجلة تيليراما، ومجلة ليزانروكبتيبل Les Inrockuptibles، حيث انطلقت تقريبًا جميعها من السؤال الدائم: ما الجديد الذي يمكننا قوله عن بيكاسو اليوم؟ خصوصًا أن اسمه أصبح "شائعًا ومنتشرًا" جدًا في حياته. فمن فترة قريبة جدًا، أقدمت عائلته على بيع اسمه لماركة سيارات "إنها بيكاسو"، كما لو أن اسمه وحده "ماركة مسجلة". وكيف لا؟ وقد بيعت مؤخرًا إحدى لوحاته بمبلغ حطم الأرقام القياسية في مزادات الأعمال الفنية: ستة عشر مليون يورو للوحة "نساء الجزائر". ونظرًا إلى هذا الجانب "المادي" لأعمال بيكاسو، لم يتلكأ الناقد الفني أوليفييه سينا في مجلة تيليراما عن التعليق: "هكذا تتشكّل أساطير صغيرة معاصرة، يغذّيها الجهل والتسويق والمضاربات".
ويرى الناقد أن هذا المعرض المُكرَّس لما تبقى من بيكاسو للأجيال، اعتمد على هذا الابتذال بدلًا من الاعتماد على العمل الفني ذاته. وتابع ضمن سلسلة من التساؤلات المشروعة؛ فكيف يمكن لهذا الإرث أن يرفد الفن بعد موت بيكاسو سنة 1973؟ ولماذا استوحى بعض الرسامين أعمال بيكاسو، في حين أن آخرين، وهم كُثُرٌ، تجنبّوه ويتجنبونه دائمًا؟ وهذا السؤال الأخير يقود إلى سؤال آخَر وهو: "أي رعب تسبّبه أعمال بيكاسو بحيث إن كثيرًا من الفنانين يتهربون ويُطوّرون إستراتيجيات التحاشي، التي كان بإمكان هذا المعرض أن يقدم لنا جردًا مفيدا عنها".
يفضل هذا المعرض على ما يبدو التركيز على الأسطورة الوضيعة والشخص ذاته والطرافة، وهذه الجملة تلخص رأي سينا، الذي لم يتردد في الحديث عن "أخطاء" في المعرض؛ فلوحة فيتنام II للأميركي ليون غولوب، تحيل إلى لوحة "مجزرة في كوريا" (1951)، وليس إلى لوحة "غرينيكا" (1937). ولم يتردد أيضًا في الغمز من قناة الفنان الجزائري عادل عبد الصمد، حين وجد ادعاءً في القول إن لوحة عبد الصمد "المريبة"، ذات العنوان "من يخاف الذئب المكار؟" مستوحاة من "غيرنيكا" بيكاسو، ولا يتحرج في عدّها "سرقة" لأعمال الفنان الفرنسي الأميركي أرماند فيرنانديز Armand Fernandez في ستينيات القرن الماضي.
ويلوم الصحفي المعرض لاختراعه "خرائط جينية" خيالية، خصوصًا حين يدّعي أن الأعمال الأخيرة والرائعة لبيكاسو توجد خلف نزعة "الرسم السيئ" (bad painting)، النزعة الفنية التي ينتمي إليها غيورغ بازيلتيس Georg Baselitz مع أنه وريث التعبيرية الألمانية التقليدية. ويلوم المنظمين على إغفال الكثير من الفنانين الذين تأثّروا ببيكاسو فعلًا، ومن بينهم، فرنسيس بيكون Francis Bacon وويليم دو كونينغ Willem de Kooning وجاكسون بولوك Jackson Pollock. على الرغم من أن الفنان الأميركي فرانك ستيلا يؤكد في الفيديو المعروض عند بداية المعرض أن تأثير بيكاسو في أعماله نتج بصفة خاصة "بواسطة الجيل السابق، بولوك وغوركي وكونينيغ".
ويختم الصحفي بالقول: من الممكن أن أعمال بيكاسو، وخلافًا لأعمال مارسيل دوشامب، لا تملك أي تأثير على فن معاصر متملق لكنه جبان، فن يكتفي بالاقتباسات والسخرية وإبهار الشخصية. قلة من الأبطال يواجهونه، في المعرض، ومن بينهم الإسباني أنطونيو سورا أو الإنجليزي دافيد هوكني ، وبشكل خاص، من خلال سلسلة "جاكلين" للرسام الألماني مارتان كيبينبرغر Martin Kippenberger . معظمهم يهربون. ومعرض "الهوس ببيكاسو"، المُوجَّه لاجتذاب أكبر عدد ممكن من الجمهور، هو حكاية مصورة عن هذا الهروب المثير للشفقة.
ونقرأ في مجلة ليزانروكينيبل الأسبوعية رأيًا لا يختلف عن الأول، وهو من توقيع الناقد جان ماكس كولارد، إذ ينظر إلى المعرض باعتباره "سوقًا حديثًا"، ويضيف أنه فيما لو كان هذا المعرض يريد إبراز تأثير العبقري بيكاسو على الفن المعاصر، فإن استعراضه الأمر كان من دون عمق وغير ذي جدوي، بل مزعج.
يقارن كولارد بين هذا المعرض ومعرض آخر نُظّم قبل سبع سنوات في المكان نفسه؛ "القصر الكبير" تحت عنوان "بيكاسو والمعلمون الكبار". حيث تَواجَهت أعمال بيكاسو مع أعمال جريكو وفيلاسكيز وغويا وروبنز وغيرهم من الفنانين، ما ولّد نوعًا من "الصدمة" بين هؤلاء الفنانين الكبار، ودفع جمهورًا كبيرًا للمجيء للمعرض.
واستغرب كولارد من المعاملة السيئة التي تعرض لها الفنان بيكاسو نفسه، في المعرض، وهو ما جعل أعماله أقلّ مرئية مما يجب. وتساءل عن سبب وضع عشرين لوحة معًا، وفي مكان واحد، تدور في فلك موضوعة بعينها، مثل التكعيبية أو بورتريه المرأة مثلًا. بينما تستطيع فيه لوحة واحدة من روائع الفنان أن تفي بالغَرَض، وتخلق التأثير المطلوب.
وهذا "البازار المعاصر" الذي يتحدث عنه الناقد الفني كولارد، يجد "صورته" إن جاز القول، في فيلم فيديو يقلّد أشكال الفن المعاصر من خلال تراكب مقاطع أفلام ومسرحيات ورقص ودعاية تجارية لساعة رولكس مع صورة بيكاسو. كل هذه العناصر مجتمعة تريد أن تقول لنا: "هذه هي الحقبة المعاصرة: انتقال الفن المعاصر إلى فضاء الميديا". ويعلّق الناقد ساخرًا: "لا شك أن فينكلكروت، سيكون سعيدا".
المستلهِمون
يقدم المعرض مائة عمل فني لبيكاسو، موضوعة مع 312 عملًا فنيًا لـ 75 فنانًا من مختلف بلدان العالم؛ الجزائر، والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وإيطاليا وباناما والصين وكينيا وآيسلندا والصين والسويد والكونغو، استلهموا جميعًا أعمالهم من عالم بابلو بيكاسو المتشعب والمتنوع والمشبع بالرموز والدلالات والعلامات.
وليس من شك أن الأعمال متفاوتة الأهمية، وكذلك في إظهار التأثر بالفنان الأندلسي الكبير. ويستطيع كل زائر أن يأخذ ما يعجبه، بل ويمكنه أن يستفيد من بعض الأعمال الفنية التي تثير نقاشًا، خاصة أعمال الفنان غوشكا ماكوغا، ومن بينها إحدى النصب التي قد تفتح نقاشًا في مواجهة صورة لوحة غيرنيكا. يعود بنا عمل جوشكا ماكوغا إلى 5 فبراير/ شباط سنة 2013، حيث يجهد وزير الخارجية الأميركي، كولن باول نفسه، أمام مجلس الأمن، في إقناع المجتمع الدولي بوجود أسلحة دمار شامل في العراق. ولأول مرة، منذ وضعها في قاعة المجلس عام 1995، يتم وضع ستار أزرق لحجب لوحة بيكاسو خوفًا من دلالتها الرمزية.
وإذا كان البعض راقته الأعمال التكعيبية لدافيد هوكني أو الفصول الأربعة لياسبر جونس، مستلهمًا لوحة "الظلّ" لبيكاسو (1953)، فإن أعمالًا أخرى أثارت نفور الكثيرين ومن بينها ميشال باسكيات Basquiat أو أندي وارهول، وأيضا أعمال جورج كوندو وشيري سامبا وبول ماك كارتي التي لم تَخْلُ من "بذاءات" فنية.
أثناء زيارة المعرض لم يكن عدد المتفرجين كبيرًا جدًا، مقارنة مع الطوابير الكبيرة الذاهبة لمعارض أخرى في "القصر الكبير"، الأمر الذي سهل الحركة والانتقال بين الردهات، والتلكؤ أمام الأعمال الفنية. وإن كان كثير من الزوار يكتشفون، لأول مرة، العديد من الفنانين العالميين الذين استلهموا من أعمال بيكاسو، خصوصًا من الجزائر وأفريقيا والصين، فإن كثيرين منهم لم يخفوا خيبتهم بسبب غياب عمليْ بيكاسو الشهيرين: "آنسات أفينيون" (1907) و"غيرنيكا" (1937)، وهما اللوحتان اللتان تمت الإشارة إليهما في كثير من الأعمال المستلهمة، واللتان تعدّان أيضًا، من أكثر اللوحات التي تعرضت للنسخ في تاريخ الفن.
تبقى الإشارة إلى أن الزائر العادي يخرج، بالتأكيد، بفكرة معززة عن تأثير الفنان الأندلسي على الفن المعاصر، وعلى فنانين من شتى بقاع العالَم. وبالتأكيد لن تؤثر عليه مقالات صحفية لاذعة، خصوصًا صحيفة لوموند، التي انتقدت سياسة متحف "القصر الكبير" في تنظيم المَعارض التي تعرف نجاحات كبيرة، ونصحت بـ "إقامة معرض عن "ميكي"، خصوصًا، أن نجاح وشهرة ديزني لاند أكبرُ من نجاحات بابلو بيكاسو، مهما كانت درجاتها".
اقرأ أيضًا: وليد رعد خدش السياسي ومشاكسته بالفن