لا أذكر مَن سكَّ مقولة "اليأس مستشار سيئ"، لكن بإزاء أغلب الاستنتاجات حول الحصاد الفكريّ للثورات العربية الماطرة التي خرج بها الدكتور برهان غليون في سياق الحوار الذي أدلى به إلى "ملحق الثقافة"، يحضرني من مخزون ثقافتي العربية الإسلامية أن اليأس من أعظم العوائق أمام الصبر، وأن اليائس لا صبر له، لأنَّ الذي يدفع الزارع إلى معاناة مشقة الزرع وسقيه وتعهده هو أمله في الحصاد، فإذا غلب اليأس على قلبه، وأطفأ شعاع أمله، لا يبقى له صبر على استمرار العمل في أرضه وزرعه، وهكذا كل إنسان في ميدان عمله.
برأي غليون تمثل الثورات العربية تجربة تاريخية فريدة لدخول جماهير الشعب بصورة صاعقة لا يمكن الالتفاف عليها أو إخفاء معانيها في ساحة العمل السياسي والعام، كما أنها خلقت هوية للشعوب وأجندة ديمقراطية لن تزول وتختفي، وأدّت إلى تراكم خبرة عملية عظيمة في النضال ضدّ مضطهديها الداخليين والخارجيين. ولذا- يضيف- بمقدار ما أبعدتنا الثورة المضادة عن الديمقراطية كتطبيق علمي، قربتنا من الفكرة الديمقراطية بوصفها العهد الوطني الوحيد القادر على الرد على تطلعات الشعب وتوحيد صفوفه. وبالتالي سيكون الصراع من أجل تحويل هذه الفكرة إلى واقع، محور نشاط العديد من النُخب الثقافية والسياسية العربية، وسوف تتحول الديمقراطية كما لم يحصل في أي فترة سابقة إلى قضية رئيسية، في حياة وإعادة بناء المجتمعات العربية تتقدم على كل القضايا الأخرى القومية والتنموية، لأنها أثبتت أنها المدخل الإجباري لتحقيق هذه المهام ذاتها.
ويشير إلى أنه لم يُفاجأ بتاتًا بموقف الغرب من الثورة السورية، وإلى أن الغربيين عمومًا يعتقدون أن المسلمين غير قادرين على الارتقاء إلى مستوى قيم الحرية والعدالة والكرامة الكونية، وأن العنف والاستبداد والهمجية تسري في عروقهم.
ويتمثل أحد أحكام القيمة التي يمكن استشفافها في قوله بشأن اشتراك النظم الديكتاتورية العربية مع إسرائيل في الكذب والدس وقلب الحقائق، وفي سياسة فرض الأمر الواقع بالقوة، وفي استخدام أساليب الإهانة والإذلال للشعب، ونفي وجوده كشعب بالمعنى السياسي، والتعامل معه كبؤر تمرد وإرهاب وتطرف وعنف، وكمجموعة من الطوائف والعشائر والعصبيات المتنافرة والمتعادية، أي باختصار في إنكار كامل لوجود شعب وتجريده من حرياته، من أجل تبرير اغتصاب أرضه وحقوقه.
وللمقارنة فإن مَن يدعّم هذا الدور في إسرائيل منذ اندلاع الثورات العربية قبل نصف عقد هم "أصحاب التوجّهات الأمنيّة" من بين الباحثين والباحثات في قضايا الشّرق الأوسط، الذين يصح وصفهم بأنهم مستشرقون بالنيابة يعتريهم الشعور بالاستعلاء العنصريّ حيال المجتمعات العربيّة، علاوةً على أنهم يتعاونون بشكلٍ جليّ أو بصورة خفيّة مع المؤسّسة الحاكمة أو المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيليّة، وبصنيعهم هذا يخالفون بصورة فظّة الحواجز التي تفصل بين الجامعات ومراكز الأبحاث ومؤسّسات الدولة، ويخونون عمليًّا دورهم كمفكّرين، والذي بموجبه يتعين عليهم تحدّي "منطق" الإجماع القومي.
وبمتابعة سريعة لنتاج هؤلاء نرى أن انقيادهم وراء هذا "المنطق" اقتضى ما يلي: مسايرة القاعدة المشتركة التّفسيريّة المتوقّعة منهم في تقويم استقرار (أو زعزعة) الأنظمة في المنطقة؛ افتراض فرضيّات روتينيّة تحتّم على المجتمعات الإسلاميّة العربيّة أن تكون متخلّفة؛ تكريس أسطورة "الاستبداد الشرقي" الاستشراقي في الخطاب العام وتغذيـة ظاهرة الإسلاموفوبيا (رهاب الإسلام).
وللنمذجة، معظم هؤلاء نعت انتفاضة المجتمع المصري على تنوّع طوائفه وألوان طيفه السياسي في يناير 2011، بأنها حالة من الفوضى قام بها "رعاع" عديمو القيادة ويفتقرون إلى الوعي السياسي الحديث. وسقوط نظام مبارك المخلوع تم عرضه كانهيار السّد الأخير الذي كان بوسعه منع سيطرة القوى الإسلاميّة على مصر.
في سياق متصل علينا أن نرى أن النظرة الإسرائيلية العامة المسبقة التي تؤكد أن كفاح الشعوب العربية من أجل الحرية محكوم عليه بالفشل تنطوي هي أيضًا على قدر من الاستعلاء، وعلى تغييب لحقيقة أن "العالم الغربي المتنور" كافح مئات الأعوام قبل أن يحظى بحصاد الحرية الحقيقية. فمثلًا يعود صدور أول وثيقة استقلال خاصة بالولايات المتحدة إلى سنة 1776، غير أن إلغاء العبودية فيها تم في سنة 1865، وجرى منح حق التصويت للنساء في سنة 1920، أما قانون حقوق المواطن الذي يحظر التمييز والفصل على أساس عنصري فقد سُنّ في سنة 1964. وبالنسبة إلى أوروبا فإن الديمقراطية بدأت تنتشر فيها في بداية القرن التاسع عشر، ومع ذلك شهدت في النصف الأول من القرن العشرين اندلاع حربين عالميتين تخللهما قيام نظام الحكم النازي.
اقرأ ايضًا : لمن تكتب النهضة حقًا؟
ويشير إلى أنه لم يُفاجأ بتاتًا بموقف الغرب من الثورة السورية، وإلى أن الغربيين عمومًا يعتقدون أن المسلمين غير قادرين على الارتقاء إلى مستوى قيم الحرية والعدالة والكرامة الكونية، وأن العنف والاستبداد والهمجية تسري في عروقهم.
وللمقارنة فإن مَن يدعّم هذا الدور في إسرائيل منذ اندلاع الثورات العربية قبل نصف عقد هم "أصحاب التوجّهات الأمنيّة" من بين الباحثين والباحثات في قضايا الشّرق الأوسط، الذين يصح وصفهم بأنهم مستشرقون بالنيابة يعتريهم الشعور بالاستعلاء العنصريّ حيال المجتمعات العربيّة، علاوةً على أنهم يتعاونون بشكلٍ جليّ أو بصورة خفيّة مع المؤسّسة الحاكمة أو المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيليّة، وبصنيعهم هذا يخالفون بصورة فظّة الحواجز التي تفصل بين الجامعات ومراكز الأبحاث ومؤسّسات الدولة، ويخونون عمليًّا دورهم كمفكّرين، والذي بموجبه يتعين عليهم تحدّي "منطق" الإجماع القومي.
وبمتابعة سريعة لنتاج هؤلاء نرى أن انقيادهم وراء هذا "المنطق" اقتضى ما يلي: مسايرة القاعدة المشتركة التّفسيريّة المتوقّعة منهم في تقويم استقرار (أو زعزعة) الأنظمة في المنطقة؛ افتراض فرضيّات روتينيّة تحتّم على المجتمعات الإسلاميّة العربيّة أن تكون متخلّفة؛ تكريس أسطورة "الاستبداد الشرقي" الاستشراقي في الخطاب العام وتغذيـة ظاهرة الإسلاموفوبيا (رهاب الإسلام).
وللنمذجة، معظم هؤلاء نعت انتفاضة المجتمع المصري على تنوّع طوائفه وألوان طيفه السياسي في يناير 2011، بأنها حالة من الفوضى قام بها "رعاع" عديمو القيادة ويفتقرون إلى الوعي السياسي الحديث. وسقوط نظام مبارك المخلوع تم عرضه كانهيار السّد الأخير الذي كان بوسعه منع سيطرة القوى الإسلاميّة على مصر.
في سياق متصل علينا أن نرى أن النظرة الإسرائيلية العامة المسبقة التي تؤكد أن كفاح الشعوب العربية من أجل الحرية محكوم عليه بالفشل تنطوي هي أيضًا على قدر من الاستعلاء، وعلى تغييب لحقيقة أن "العالم الغربي المتنور" كافح مئات الأعوام قبل أن يحظى بحصاد الحرية الحقيقية. فمثلًا يعود صدور أول وثيقة استقلال خاصة بالولايات المتحدة إلى سنة 1776، غير أن إلغاء العبودية فيها تم في سنة 1865، وجرى منح حق التصويت للنساء في سنة 1920، أما قانون حقوق المواطن الذي يحظر التمييز والفصل على أساس عنصري فقد سُنّ في سنة 1964. وبالنسبة إلى أوروبا فإن الديمقراطية بدأت تنتشر فيها في بداية القرن التاسع عشر، ومع ذلك شهدت في النصف الأول من القرن العشرين اندلاع حربين عالميتين تخللهما قيام نظام الحكم النازي.
اقرأ ايضًا : لمن تكتب النهضة حقًا؟