منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990، يختار سينمائيون لبنانيون عديدون مواضيع متنوّعة، مستلّة من أعوامها المريرة، ومناخاتها ومتاهاتها وأهوالها ومساراتها. يحاول هؤلاء تشريحها سينمائياً، معتبرين أن للحكايات الفردية أولوية أساسية، إنْ تكن الحكاية الفردية هذه خاصّة بالمخرج نفسه، أو بأحد أقاربه أو معارفه، أو ارتكازاً على معاينات المخرج وانتباهه المتنوّع إلى "غير المرويّ" من قصصها.
يواجه هؤلاء تحدّيات شتّى، لن تبقى أسيرة صعوبة الحصول على إنتاجات سليمة، أو انفضاض لبنانيين كثيرين عنهم وعن أفلامهم، بحجة عدم رغبتهم في التحدّث عن الحرب، أو العودة إليها. ذلك أن الرقابة، بأنواعها اللبنانية المختلفة (الرسمية، والاجتماعية، والسياسية، والأمنية، والطائفية، إلخ.)، تقف بالمرصاد لكلّ من "تُسوِّل" له نفسه استعادة تلك الأعوام، بحثاً وتحليلاً وتفكيكاً وكشفاً. صحيحٌ أن سينمائيين لبنانيين عديدين مُصرّون على غلبة التحدّي، فتزداد حماستهم إزاء المسّ بملفات يُراد لها البقاء في النسيان. لكنهم، في المقابل، يواجهون غُربة الجمهور عن أفلامهم، وقسوة الرقابة على مواضيعهم، وحدّة المنع الذي تتعرّض له أعمالهم تلك. مع هذا، يبقون على تماسٍ سينمائي مع الحرب وفضاءاتها وأسئلتها، محاولين سبر أغوارها، والتنقيب في مخابئها عن شتّى الأمور المتعلّقة بها، وبتأثيراتها المختلفة على الناس، كما على الاجتماع والثقافة والسلوك.
أين هو الفلسطيني؟
وهذا لا يقف عند نوع سينمائي من دون آخر. فالأفلام المعنية بالحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، روائيةٌ ووثائقيةٌ على حدّ سواء. والاشتغال السينمائي بمواضيعها يتّخذ أشكالاً عديدة، كالمتخيّل والتوثيقي والتجريبي والـ"فيديو آرت" والتجهيزات. أما الأسئلة المأخوذة منها، فمتعدّدة، يمكن أن تختزل بسؤال الاختبار الفرديّ، المفتوح على معناها ومسارها، كما على ثنائية الحضور/ الغياب مثلاً، أو على ملفات مسكوتٍ عنها، رسمياً على الأقل: المفقودون والمخطوفون، المعوّقون، المهاجرون إلى خارج البلد في أزمنة الخراب اليومي، والمهجّرون في الداخل بسببها أيضاً. هناك أيضاً مصير مقاتلين يخوضونها بقناعة، قبل أن يكتشفوا خرابها وفسادها، فيتخلّون عنها و"يختفون".
اقــرأ أيضاً
في الروائيّ، يحاول السينمائيّ اللبناني إعادة تركيب الحرب وفقاً لتجربةٍ شخصية ما، أو بناءً على التزام ثقافي ـ أخلاقيّ يقوده إلى حقول معرفية، تؤهّله النظر في الحرب وأهوالها، بناءً عليها. وفي الوثائقيّ، تُصبح العلاقة بها أكثر وضوحاً ومباشرة، إذْ تذهب الكاميرا إلى الجرح نفسه، لمعاينته ومقاربته والاشتغال عليه، أو إلى "مُصابٍ" بالجرح هذا، ليسرد ما لديه من وقائع تغفل عنها الرواية الرسمية، وأدبيات الحرب وفنونها.
لكن السؤال الذي لا تزال السينما اللبنانية، المعنية بالحرب الأهلية، منفضّة عنه، يتعلّق بغياب العامل الفلسطيني فيها (الحرب)، كسببٍ أو كمُشارك، أو كحضور طاغٍ ومختلف الأشكال. الوثائقيّ اللبناني يُقارب المسألة من زوايا إنسانية، مع وقوعه، غالباً، في فخّ التبجيل، بتصوير الفلسطيني مناضلاً يُدافع عن حقّ مسلوب منه، أو ضحية ينهشه نظام عربي رجعي، أو احتلال إسرائيلي فاشي، أو عنصرية قاتلة يواجهها الفرد الفلسطيني في دول التشرّد والمنافي العربية، خصوصاً تلك المجاورة لفلسطين المحتلّة. وهذا، رغم أهميته، يبقى ناقصاً، إذْ يغيب الفلسطيني ككائن حيّ، لمصلحة حضوره كفدائيّ أو كضحية فقط. وهذا، رغم ضرورته، لن يبلغ مرتبة السؤال الفعليّ، المرتبط بالدور الذي يلعبه الفلسطيني، الفرد والجماعة، في الحرب الأهلية، والمشاركة فيها، بعد أعوام على التغلغل المسلّح في الداخل اللبناني، اجتماعياً وسياسياً وإعلامياً وثقافياً واقتصادياً، خصوصاً بعد وصول أعداد إضافية إلى لبنان، إثر "أيلول الأسود" الأردنيّ، عام 1970. أو التعامل السينمائيّ معه ككائن إنساني ـ بشريّ، بكل ما يملكه من انفعال وأفكار ورؤى وأحلام وهواجس ومخاوف وقلاقل وارتباطات، سلباً وإيجاباً.
بالتالي، فإن هذا كلّه لن يدفع سينمائيّاً لبنانيّاً واحدًا ـ إنْ يكن حليفاً لفلسطين وقضيتها وناسها، أو مناوئًا لهم ولبلدهم المسلوب وقضيتهم ـ إلى طرح السؤال الفلسطيني، أو إيجاد حيّز أساسيّ للشخصية الفلسطينية، أو مناقشة الحضور الفلسطيني في الحرب، في صناعة الفيلم الروائي اللبناني الطويل. لن يُصوِّر سينمائيٌّ لبنانيٌّ واحد، بصرف النظر عن الجهة المنتمي إليها، أي شخصية فلسطينية، سلباً أو إيجاباً، بحسب الجهة تلك التي ينتمي السينمائيّ نفسه إليها. يقول المخرج اللبناني بهيج حجيج، في دردشة خاصّة معه حول هذا الموضوع: "ترفض الإيديولوجيا، في بعض السينما اللبنانية، الشخصية الفلسطينية، لأنها سلبية، ولأن دورها سلبيّ في الحرب الأهلية. مع هذا، فإن أحداً من أنصار الإيديولوجيا تلك لم يذكر الفلسطيني، ولو بصورة سلبية"، ويردّ السبب إلى ما يصفه بـ"الانطواء على النفس"، الذي يؤدّي إلى ممارسة نوع من النفي للشخصية الفلسطينية، "لأنها شخصية محرجة". لهذا، يُفضّلون عدم التطرّق إلى الموضوع كي لا يقعوا في الإحراج، "أو ربما لعدم استيعابهم البُعد الذي يتخطّى لبنان". زميله جان شمعون، يستخدم تعبير "اللاوعي" بدلاً من الانطواء، ويقول إنه (اللاوعي) يجعل السينمائيين اللبنانيين "يتوجّهون" إلى المواضيع اللبنانية.
اقــرأ أيضاً
القضية لا الفرد
لكن الفرد الفلسطيني لن يكون مسؤولاً عن "التورّط الفلسطيني" في الحرب الأهلية اللبنانية، على نقيض قيادات سياسية وعسكرية تعثر في لبنان على حيّز جغرافيّ واسع، لتثبيت حضورها في مواجهة العدو الإسرائيلي، وحليفه "اليمين اللبناني"، كما تعثر في القوى الوطنية والإسلامية والقومية العربية، ركيزة مهمّة لتحصين "القضية الفلسطينية" من أعداء لبنانيين وعرب مقيمين في لبنان، يتعاملون، سياسياً وأمنياً وإعلامياً، مع الكيان الصهيوني، بطرق وأساليب شتّى.
هذا كلّه لن يحجب واقعاً "سينمائياً"، مفاده أن أموالاً فلسطينية تتدفّق إلى بيروت قبل عام 1970 وبعده، بهدف تمويل نشاطات ثقافية وفنية مختلفة، تستفيد منها سينما وثائقية تسجيلية بالدرجة الأولى، وبعض الروائيّة، بهدف تحقيق أفلام تُناصر القضية والفدائيّ والمناضل. أموال فلسطينية تُصرف لبنانياً وفلسطينياً، وتعثر، في سينمائيين يساريين وقوميين متعاطفين مع "القضية"، على حلفاء يُقدّمون للعالم صورة واقعية ما عن حقيقة فلسطينية، يريد الغرب المتحالف مع إسرائيل حجبها عن الناس. وبعيداً عن كلّ قراءة نقدية للمبنى الدرامي والجماليّ للأفلام هذه، التي لن تكون لصالح الغالبية الساحقة منها، فإن النتاج البصريّ اللبناني الفلسطيني يبقى "مهمّاً" كصورة وأرشيف وتأريخٍ لعلاقة لا تزال، لغاية الآن، ملتبسة وغير واضحة بين اللبناني والفلسطيني.
السينما اللبنانية، المعنية بالحرب الأهلية والمُنجزة بعد انتهائها، لم تتعرّض للسؤال الفلسطيني ودوره في الحرب تلك، علماً أن تغييب الشخصية الفلسطينية في السينما يتناقض وحضورها القوي في السياسة، وفي فنون أخرى، أبرزها الموسيقى والأغنية. بهذا، يُمكن اختصار واقع الحال. لكن الأهمّ كامنٌ في ضرورة البحث عن أسباب التغييب، خصوصاً بالنسبة إلى سينمائيين لبنانيين يُنجزون أفلاماً كهذه، ولديهم تاريخٌ حافل في النشاط الفلسطيني المتنوّع، ثقافياً وفنياً وإيديولوجياً، وربما عسكرياً أيضاً. المعنيّون بصناعة السينما في لبنان يُردّدون أنْ لا شيء يُبرِّر السكوت عن الدور الفلسطيني والشخصية الفلسطينية في السينما، رغم هذا الواقع، علماً أن سينمائيين عديدين يرون الدور "سلبياً"، من دون أن يتناولوه في أعمالهم، ومن دون أن يُقدِّم أحدٌ منهم سبباً لذلك، مكتفين بالقول إن السبب ربما يكون "مقصوداً" أو "غير مقصود".
اقــرأ أيضاً
بالنسبة إلى فيلمي "معارك حبّ" (2004) لدانييل عربيد و"بيروت الغربية" (1998) لزياد دويري، مثلاً، فإن سبب تغييب الشخصية الفلسطينية "مقصود"، لأنهما مستمدّان من "سيرة شخصية بحتة"، ما يكشف حقيقة أن المخرجين لم يلتقيا فلسطينيين في البيئة التي ينشآن فيها، أثناء المرحلة العمرية التي تُشكّل النواة الدرامية الأساسية لفيلميهما. دويري يُنجز "الصدمة" (2012، عن رواية بالعنوان نفسه للجزائري ياسمينا خضرا)، لكن الفيلم مبني برمّته على الموضوع الفلسطيني البحت، وعلى تركيبة الشخصية الفلسطينية في علاقتها بفلسطين المحتلة ودولة الاحتلال. ولعربيد فيلمان وثائقيان، "وحدي مع الحرب" (2000) و"على الحدود" (2002)، يظهر الفلسطيني فيهما.
أسبابٌ وأسبابٌ
الخوف، والقلق، وعدم قدرة صنيع سينمائيّ واحد على استيعاب المسألة الفلسطينية، وحضور المسألة نفسها في الاجتماع والسياسة والثقافة في لبنان، أسبابٌ لن يتردّد سينمائيون لبنانيون في التلميح إليها، بشكل أو بآخر، كأسباب مبطّنة لتغييب الشخصية الفلسطينية عن أفلامهم الروائية. بعض هؤلاء يؤكّد أن "الشوفينية" تدفع سينمائيين عديدين إلى التحدّث عن لبنان واللبنانيين فقط. يريدون التأكيد على هوية لبنانية لأفلامهم، أي "لسينما محلية". مع هذا، فإن بعضاً آخر منهم يُدخِل "لمحات بسيطة ورمزية عن الوضع الفلسطيني، لأن التوجّه برمّته منصبٌّ على الواقع اللبناني". ففي "أشباح بيروت" (1998) لغسان سلهب، مثلاً، هناك مشهد يُصوِّر لقاء الشخصية الرئيسة (عوني قوّاص) بشقيقته (دارينا الجندي) على شاطئ البحر، أمام سكّة حديدية، فيقول لشقيقته إن السكّة هذه "تمرّ في فلسطين"، وإن "فلسطين كانت تحمل أحلامنا". في "بيروت الغربية" لدويري، يمرّ الفلسطيني سريعاً، في حين أن شخصية أم وليد (صاحبة منزل دعارة يقع وسط خراب بيروت)، الحقيقية، فلسطينية الأصل، لكن دويري يجعلها، في الفيلم، لبنانية.
يؤكّد سينمائيون لبنانيون أن عدم رغبتهم في الانزلاق في متاهة "الكليشيهات" الخاصّة بالحرب اللبنانية، والتحدّث بلغتها (غربية/ شرقية، مسلم/ مسيحي، شمالي/ جنوبي)، يجعلهم يبتعدون عن الموضوع كلّياً. بهيج حجيج يُحقِّق "زنّار النار" (2004)، الذي يستعيد مناخات الحرب وتأثيراتها النفسية والاجتماعية. لكنه لا يتطرّق إلى الفلسطيني إطلاقاً، لأنه "خارج الصُوَر المسبقة والمرسومة سلفاً والتقليدية"، كما يقول حجيج، مضيفاً أن هذا يعني تعارض الشخصية الفلسطينية وسياق الفيلم.
التساؤلات السابقة دافعٌ إلى فتح نقاش نقدي أوسع، يُفترض به أن يُقدِّم خارطة واقعية للانفصال الحاصل بين السينما والفلسطيني في أفلام الحرب الأهلية اللبنانية، الروائية الطويلة تحديداً. المأزق يزداد حدّة إزاء انفصال من نوع آخر، إذْ يغوص مخرجون لبنانيون في أحوال الحرب وأوحالها، من دون أن يُغيِّبوا الفلسطيني (وإن يكن بطلاً ومناضلاً وشهيداً) في أعمالهم الوثائقية ـ التسجيلية، لكنهم ـ هم أنفسهم ـ يُغيّبونه كلّياً في أفلامهم الروائية.
فهل لأن التعامل اليومي مع الفلسطيني في بلدٍ مثل لبنان "حسّاس للغاية"، لاعتبارات متعلّقة بصرامة القوانين المفروضة عليه، والتي أقلّ ما يُمكن وصفها به هو أنها "عنصرية"، والـ"عنصرية" تلك مسحوبة على سلوك لبناني طاغٍ إزاء الفلسطيني؛ هل لهذا السبب يبتعد السينمائيون اللبنانيون عن "السؤال الفلسطيني" في أفلامهم؟
اقــرأ أيضاً
أين هو الفلسطيني؟
وهذا لا يقف عند نوع سينمائي من دون آخر. فالأفلام المعنية بالحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، روائيةٌ ووثائقيةٌ على حدّ سواء. والاشتغال السينمائي بمواضيعها يتّخذ أشكالاً عديدة، كالمتخيّل والتوثيقي والتجريبي والـ"فيديو آرت" والتجهيزات. أما الأسئلة المأخوذة منها، فمتعدّدة، يمكن أن تختزل بسؤال الاختبار الفرديّ، المفتوح على معناها ومسارها، كما على ثنائية الحضور/ الغياب مثلاً، أو على ملفات مسكوتٍ عنها، رسمياً على الأقل: المفقودون والمخطوفون، المعوّقون، المهاجرون إلى خارج البلد في أزمنة الخراب اليومي، والمهجّرون في الداخل بسببها أيضاً. هناك أيضاً مصير مقاتلين يخوضونها بقناعة، قبل أن يكتشفوا خرابها وفسادها، فيتخلّون عنها و"يختفون".
لكن السؤال الذي لا تزال السينما اللبنانية، المعنية بالحرب الأهلية، منفضّة عنه، يتعلّق بغياب العامل الفلسطيني فيها (الحرب)، كسببٍ أو كمُشارك، أو كحضور طاغٍ ومختلف الأشكال. الوثائقيّ اللبناني يُقارب المسألة من زوايا إنسانية، مع وقوعه، غالباً، في فخّ التبجيل، بتصوير الفلسطيني مناضلاً يُدافع عن حقّ مسلوب منه، أو ضحية ينهشه نظام عربي رجعي، أو احتلال إسرائيلي فاشي، أو عنصرية قاتلة يواجهها الفرد الفلسطيني في دول التشرّد والمنافي العربية، خصوصاً تلك المجاورة لفلسطين المحتلّة. وهذا، رغم أهميته، يبقى ناقصاً، إذْ يغيب الفلسطيني ككائن حيّ، لمصلحة حضوره كفدائيّ أو كضحية فقط. وهذا، رغم ضرورته، لن يبلغ مرتبة السؤال الفعليّ، المرتبط بالدور الذي يلعبه الفلسطيني، الفرد والجماعة، في الحرب الأهلية، والمشاركة فيها، بعد أعوام على التغلغل المسلّح في الداخل اللبناني، اجتماعياً وسياسياً وإعلامياً وثقافياً واقتصادياً، خصوصاً بعد وصول أعداد إضافية إلى لبنان، إثر "أيلول الأسود" الأردنيّ، عام 1970. أو التعامل السينمائيّ معه ككائن إنساني ـ بشريّ، بكل ما يملكه من انفعال وأفكار ورؤى وأحلام وهواجس ومخاوف وقلاقل وارتباطات، سلباً وإيجاباً.
بالتالي، فإن هذا كلّه لن يدفع سينمائيّاً لبنانيّاً واحدًا ـ إنْ يكن حليفاً لفلسطين وقضيتها وناسها، أو مناوئًا لهم ولبلدهم المسلوب وقضيتهم ـ إلى طرح السؤال الفلسطيني، أو إيجاد حيّز أساسيّ للشخصية الفلسطينية، أو مناقشة الحضور الفلسطيني في الحرب، في صناعة الفيلم الروائي اللبناني الطويل. لن يُصوِّر سينمائيٌّ لبنانيٌّ واحد، بصرف النظر عن الجهة المنتمي إليها، أي شخصية فلسطينية، سلباً أو إيجاباً، بحسب الجهة تلك التي ينتمي السينمائيّ نفسه إليها. يقول المخرج اللبناني بهيج حجيج، في دردشة خاصّة معه حول هذا الموضوع: "ترفض الإيديولوجيا، في بعض السينما اللبنانية، الشخصية الفلسطينية، لأنها سلبية، ولأن دورها سلبيّ في الحرب الأهلية. مع هذا، فإن أحداً من أنصار الإيديولوجيا تلك لم يذكر الفلسطيني، ولو بصورة سلبية"، ويردّ السبب إلى ما يصفه بـ"الانطواء على النفس"، الذي يؤدّي إلى ممارسة نوع من النفي للشخصية الفلسطينية، "لأنها شخصية محرجة". لهذا، يُفضّلون عدم التطرّق إلى الموضوع كي لا يقعوا في الإحراج، "أو ربما لعدم استيعابهم البُعد الذي يتخطّى لبنان". زميله جان شمعون، يستخدم تعبير "اللاوعي" بدلاً من الانطواء، ويقول إنه (اللاوعي) يجعل السينمائيين اللبنانيين "يتوجّهون" إلى المواضيع اللبنانية.
لكن الفرد الفلسطيني لن يكون مسؤولاً عن "التورّط الفلسطيني" في الحرب الأهلية اللبنانية، على نقيض قيادات سياسية وعسكرية تعثر في لبنان على حيّز جغرافيّ واسع، لتثبيت حضورها في مواجهة العدو الإسرائيلي، وحليفه "اليمين اللبناني"، كما تعثر في القوى الوطنية والإسلامية والقومية العربية، ركيزة مهمّة لتحصين "القضية الفلسطينية" من أعداء لبنانيين وعرب مقيمين في لبنان، يتعاملون، سياسياً وأمنياً وإعلامياً، مع الكيان الصهيوني، بطرق وأساليب شتّى.
هذا كلّه لن يحجب واقعاً "سينمائياً"، مفاده أن أموالاً فلسطينية تتدفّق إلى بيروت قبل عام 1970 وبعده، بهدف تمويل نشاطات ثقافية وفنية مختلفة، تستفيد منها سينما وثائقية تسجيلية بالدرجة الأولى، وبعض الروائيّة، بهدف تحقيق أفلام تُناصر القضية والفدائيّ والمناضل. أموال فلسطينية تُصرف لبنانياً وفلسطينياً، وتعثر، في سينمائيين يساريين وقوميين متعاطفين مع "القضية"، على حلفاء يُقدّمون للعالم صورة واقعية ما عن حقيقة فلسطينية، يريد الغرب المتحالف مع إسرائيل حجبها عن الناس. وبعيداً عن كلّ قراءة نقدية للمبنى الدرامي والجماليّ للأفلام هذه، التي لن تكون لصالح الغالبية الساحقة منها، فإن النتاج البصريّ اللبناني الفلسطيني يبقى "مهمّاً" كصورة وأرشيف وتأريخٍ لعلاقة لا تزال، لغاية الآن، ملتبسة وغير واضحة بين اللبناني والفلسطيني.
السينما اللبنانية، المعنية بالحرب الأهلية والمُنجزة بعد انتهائها، لم تتعرّض للسؤال الفلسطيني ودوره في الحرب تلك، علماً أن تغييب الشخصية الفلسطينية في السينما يتناقض وحضورها القوي في السياسة، وفي فنون أخرى، أبرزها الموسيقى والأغنية. بهذا، يُمكن اختصار واقع الحال. لكن الأهمّ كامنٌ في ضرورة البحث عن أسباب التغييب، خصوصاً بالنسبة إلى سينمائيين لبنانيين يُنجزون أفلاماً كهذه، ولديهم تاريخٌ حافل في النشاط الفلسطيني المتنوّع، ثقافياً وفنياً وإيديولوجياً، وربما عسكرياً أيضاً. المعنيّون بصناعة السينما في لبنان يُردّدون أنْ لا شيء يُبرِّر السكوت عن الدور الفلسطيني والشخصية الفلسطينية في السينما، رغم هذا الواقع، علماً أن سينمائيين عديدين يرون الدور "سلبياً"، من دون أن يتناولوه في أعمالهم، ومن دون أن يُقدِّم أحدٌ منهم سبباً لذلك، مكتفين بالقول إن السبب ربما يكون "مقصوداً" أو "غير مقصود".
أسبابٌ وأسبابٌ
الخوف، والقلق، وعدم قدرة صنيع سينمائيّ واحد على استيعاب المسألة الفلسطينية، وحضور المسألة نفسها في الاجتماع والسياسة والثقافة في لبنان، أسبابٌ لن يتردّد سينمائيون لبنانيون في التلميح إليها، بشكل أو بآخر، كأسباب مبطّنة لتغييب الشخصية الفلسطينية عن أفلامهم الروائية. بعض هؤلاء يؤكّد أن "الشوفينية" تدفع سينمائيين عديدين إلى التحدّث عن لبنان واللبنانيين فقط. يريدون التأكيد على هوية لبنانية لأفلامهم، أي "لسينما محلية". مع هذا، فإن بعضاً آخر منهم يُدخِل "لمحات بسيطة ورمزية عن الوضع الفلسطيني، لأن التوجّه برمّته منصبٌّ على الواقع اللبناني". ففي "أشباح بيروت" (1998) لغسان سلهب، مثلاً، هناك مشهد يُصوِّر لقاء الشخصية الرئيسة (عوني قوّاص) بشقيقته (دارينا الجندي) على شاطئ البحر، أمام سكّة حديدية، فيقول لشقيقته إن السكّة هذه "تمرّ في فلسطين"، وإن "فلسطين كانت تحمل أحلامنا". في "بيروت الغربية" لدويري، يمرّ الفلسطيني سريعاً، في حين أن شخصية أم وليد (صاحبة منزل دعارة يقع وسط خراب بيروت)، الحقيقية، فلسطينية الأصل، لكن دويري يجعلها، في الفيلم، لبنانية.
يؤكّد سينمائيون لبنانيون أن عدم رغبتهم في الانزلاق في متاهة "الكليشيهات" الخاصّة بالحرب اللبنانية، والتحدّث بلغتها (غربية/ شرقية، مسلم/ مسيحي، شمالي/ جنوبي)، يجعلهم يبتعدون عن الموضوع كلّياً. بهيج حجيج يُحقِّق "زنّار النار" (2004)، الذي يستعيد مناخات الحرب وتأثيراتها النفسية والاجتماعية. لكنه لا يتطرّق إلى الفلسطيني إطلاقاً، لأنه "خارج الصُوَر المسبقة والمرسومة سلفاً والتقليدية"، كما يقول حجيج، مضيفاً أن هذا يعني تعارض الشخصية الفلسطينية وسياق الفيلم.
التساؤلات السابقة دافعٌ إلى فتح نقاش نقدي أوسع، يُفترض به أن يُقدِّم خارطة واقعية للانفصال الحاصل بين السينما والفلسطيني في أفلام الحرب الأهلية اللبنانية، الروائية الطويلة تحديداً. المأزق يزداد حدّة إزاء انفصال من نوع آخر، إذْ يغوص مخرجون لبنانيون في أحوال الحرب وأوحالها، من دون أن يُغيِّبوا الفلسطيني (وإن يكن بطلاً ومناضلاً وشهيداً) في أعمالهم الوثائقية ـ التسجيلية، لكنهم ـ هم أنفسهم ـ يُغيّبونه كلّياً في أفلامهم الروائية.
فهل لأن التعامل اليومي مع الفلسطيني في بلدٍ مثل لبنان "حسّاس للغاية"، لاعتبارات متعلّقة بصرامة القوانين المفروضة عليه، والتي أقلّ ما يُمكن وصفها به هو أنها "عنصرية"، والـ"عنصرية" تلك مسحوبة على سلوك لبناني طاغٍ إزاء الفلسطيني؛ هل لهذا السبب يبتعد السينمائيون اللبنانيون عن "السؤال الفلسطيني" في أفلامهم؟