صباح جديد لم تعكّره أصوات العصافير المقتولة، أو رائحة الياسمين المزيف، أو نداءات بائسة للآلهة. هو أحد صباحات دمشق الطبيعية في هذه الأيام. هدوء يسبق أصوات القصف على الغوطة الدمشقية. هواء يملؤه غبار الركام، وتلوث الأفكار.
ما زلنا نضع طاولة صغيرة عند الفطور، وما زالت والدتي تعده على طبق معدني قديم وجميل.
عاد والدي ومعه ربطة من خبز (الدولة)، هكذا يسمونه هنا. جلسنا حول الطبق متأملين بعضنا باحثين عن موضوع نتكلم فيه. بدأت والدتي تتحدث كيف صنعت اللبن والجبن، كما كانت تفعل سابقاً، حيث يبلغ سعر الكيلوغرام اليوم ما بين 900 و1700 ليرة، أما الزعتر فكان توافره قليلاً على الطبق (الكيلو الصالح للأكل ثمنه 1100 ليرة، حسب والدي).
وعلاوة على ذلك فإن سعر صفيحة زيت الزيتون (المغشوشة)، لا يقل عن 30 ألف ليرة. "الغلاء فاحش كعهر الدولة. الحمد لله"، أردف والدي، ثم ترك الصمت يتكلم وحده.
كأس من الشاي لم يستطع تليين قساوة خبز "الدولة"، وكأن هذا الخبز أيضاً شريك لها، ولا يريد حتى النزول إلى معدة معارضيها. ضحكت والدتي من هذا التفسير، وذهبت لتحضّر البيض المقلي. هنا يضيف والدي "الحمدلله" جديدة، ويبتسم لوالدتي بعد ذهابها. هو دائماً يفعل ذلك فهذا هو فعل الحب من طرف واحد.
بدأت أصوات القذائف تنهال على مسامعنا، شتمت، ونظرت إلى والدي أسأله عن حاله وصحته. "مبارح ما نزل الراتب عند الصراف، كل شهر نفس الحالة"، قال. بالطبع، فـ"الدولة" عاجزة عن دفع الرواتب القليلة في مواعيدها، وقادرة على دفع المليارات ورهن البلاد لتشتري السلاح والمخدرات.
أقل من أربعين ألف ليرة، راتب والدي، بعد أكثر من أربعين عاماً قضاها بالعمل في إحدى مؤسسات الدولة. عادت أمي ووَضعت مقلاة البيض على الطبق. المقلاة التي تربيت وأنا أراها على مائدة الطعام. ما زالت جميلة ومتينة، لكن قطرات من الندى انسابت عليها وعلى الطبق.
مسحت أمي عرقها واعتذرت، أمي اعتادت الشقاء في حياتها. شكراً لك لا داعي للاعتذار، فلا مكيف ولا مروحة في المنزل. كلّها تعطّلت بسبب الانقطاع المتكرّر للتيار الكهربائي، يقول والدي بهدوء. نسيم عليل برّد جبينها فجأة. تبتسم له وتناوله لقمة من تعبها لترتسم ابتسامة على وجهه أيضاً. مائدة ثمينة! فإن جمعنا ما عليها من أطعمة نجد أن ثمنها يتجاوز الخمسة آلاف ليرة سورية، أي سدس راتب والدي الشهري تقريباً.
وقبل أن ننتهي انزلقت كأس الشاي من يد أمي على الطبق، فسارعت إلى مسحه. تتوتر دوماً عندما تخفي شيئاً ما، لكن تبين أنه ليس بالشيء المهم بطبيعة الحال. فالبرّاد تعطل أمس عندما عادت الكهرباء فجأة وبقوة، ثم عادت وانقطعت.
لا بأس، فسعر البراد الحالي تجاوز 250 ألف ليرة سورية. أما تكلفة الصيانة الإجمالية للبراد والمكيف فتفوق المائة ألف. ضحكنا جميعنا على مبدأ "كل شي بيتعوض إلا الروح"، وبعد أن انتهينا من ترتيب مجلسنا، حاولنا مشاهدة الأخبار المقيتة، لكن الشاشة السوداء للتلفاز رافقتنا كأننا دخلنا في نفق مظلم. لم نأبه لتعطل التلفاز على مبدأ أن المصائب لا تأتي فرادى.
في هذه الأثناء، أضاف والدي "الحمدلله" ثالثة، و أنا لعنت روح بشار الأسد من جديد.
(مدوّن اقتصادي سوري)
اقــرأ أيضاً
عاد والدي ومعه ربطة من خبز (الدولة)، هكذا يسمونه هنا. جلسنا حول الطبق متأملين بعضنا باحثين عن موضوع نتكلم فيه. بدأت والدتي تتحدث كيف صنعت اللبن والجبن، كما كانت تفعل سابقاً، حيث يبلغ سعر الكيلوغرام اليوم ما بين 900 و1700 ليرة، أما الزعتر فكان توافره قليلاً على الطبق (الكيلو الصالح للأكل ثمنه 1100 ليرة، حسب والدي).
وعلاوة على ذلك فإن سعر صفيحة زيت الزيتون (المغشوشة)، لا يقل عن 30 ألف ليرة. "الغلاء فاحش كعهر الدولة. الحمد لله"، أردف والدي، ثم ترك الصمت يتكلم وحده.
كأس من الشاي لم يستطع تليين قساوة خبز "الدولة"، وكأن هذا الخبز أيضاً شريك لها، ولا يريد حتى النزول إلى معدة معارضيها. ضحكت والدتي من هذا التفسير، وذهبت لتحضّر البيض المقلي. هنا يضيف والدي "الحمدلله" جديدة، ويبتسم لوالدتي بعد ذهابها. هو دائماً يفعل ذلك فهذا هو فعل الحب من طرف واحد.
بدأت أصوات القذائف تنهال على مسامعنا، شتمت، ونظرت إلى والدي أسأله عن حاله وصحته. "مبارح ما نزل الراتب عند الصراف، كل شهر نفس الحالة"، قال. بالطبع، فـ"الدولة" عاجزة عن دفع الرواتب القليلة في مواعيدها، وقادرة على دفع المليارات ورهن البلاد لتشتري السلاح والمخدرات.
أقل من أربعين ألف ليرة، راتب والدي، بعد أكثر من أربعين عاماً قضاها بالعمل في إحدى مؤسسات الدولة. عادت أمي ووَضعت مقلاة البيض على الطبق. المقلاة التي تربيت وأنا أراها على مائدة الطعام. ما زالت جميلة ومتينة، لكن قطرات من الندى انسابت عليها وعلى الطبق.
مسحت أمي عرقها واعتذرت، أمي اعتادت الشقاء في حياتها. شكراً لك لا داعي للاعتذار، فلا مكيف ولا مروحة في المنزل. كلّها تعطّلت بسبب الانقطاع المتكرّر للتيار الكهربائي، يقول والدي بهدوء. نسيم عليل برّد جبينها فجأة. تبتسم له وتناوله لقمة من تعبها لترتسم ابتسامة على وجهه أيضاً. مائدة ثمينة! فإن جمعنا ما عليها من أطعمة نجد أن ثمنها يتجاوز الخمسة آلاف ليرة سورية، أي سدس راتب والدي الشهري تقريباً.
وقبل أن ننتهي انزلقت كأس الشاي من يد أمي على الطبق، فسارعت إلى مسحه. تتوتر دوماً عندما تخفي شيئاً ما، لكن تبين أنه ليس بالشيء المهم بطبيعة الحال. فالبرّاد تعطل أمس عندما عادت الكهرباء فجأة وبقوة، ثم عادت وانقطعت.
لا بأس، فسعر البراد الحالي تجاوز 250 ألف ليرة سورية. أما تكلفة الصيانة الإجمالية للبراد والمكيف فتفوق المائة ألف. ضحكنا جميعنا على مبدأ "كل شي بيتعوض إلا الروح"، وبعد أن انتهينا من ترتيب مجلسنا، حاولنا مشاهدة الأخبار المقيتة، لكن الشاشة السوداء للتلفاز رافقتنا كأننا دخلنا في نفق مظلم. لم نأبه لتعطل التلفاز على مبدأ أن المصائب لا تأتي فرادى.
في هذه الأثناء، أضاف والدي "الحمدلله" ثالثة، و أنا لعنت روح بشار الأسد من جديد.
(مدوّن اقتصادي سوري)