اقرأ أيضا: تعليم العقل... اليد... والروح
أخيرا اتخذت قراري بإلحاق ابني بإحدى مدارس تعليم والدورف، فخرجت من تلك المقابلة مع المدرسة ومعي استمارة التقديم لهذا العام، اعتقادا مني أنها ستكون تجربة لمدة عام واحد أو بالكثير عامين، تعليم ما قبل الأساسي فقط، خصوصا أن المدرسة الابتدائية التابعة للمنطقة التي أسكن بها من أفضل المدارس وفقا لتقييم الولاية التي نعيش بها.
تجربة ثرية
انتهى العامان سريعا، وكانت التجربة ثرية، ليس فقط لابني ولكن لي أنا وزوجي، فجزء مهم من تعليم والدورف يعتمد على مشاركة الأهل وتعليمهم وربطهم بمجتمع المدرسة الصغير، فالكل يعرفك بالاسم. ومعظم أولياء الأمور بالرغم من تنوع جنسياتهم تربطهم أشياء مشتركة، أهمها هو عدم الخوف من الاختلاف، وحب التعرف على الثقافات المختلفة وتقبل الآخر.
كما تهتم المدرسة بتنمية ثقافة الأهل التربوية من خلال اجتماعات مع أولياء الأمور بشكل شهري لحضور محاضرات تتكلم عن تربية الأبناء، عن نفسيتهم وتطورهم ونموهم في المراحل المختلفة. عن أهمية البساطة في المنزل والحد من حجم الأشياء التي نمتلكها. عن أهمية النظام والروتين في حياة الطفل، ومحاضرات عديدة عن التأثير السلبي لكل ما هو شاشة مرئية على الأطفال.
مع العلم أن أغلب أولياء الأمور في هذه المدرسة -بحكم موقعها بجوار الفرع الرئيسي لشركة مايكروسوفت- يعملون في مجال التقنيات والتكنولوجيا ويقضون الوقت الأعظم من حياتهم أمام شاشة أو أخرى، ولعل هذا السبب الرئيسي لاختيارهم لنوع من التعليم يحُد من استعمال أبنائهم لهذه الشاشات.
في نهاية العام الثاني والذي بعده سينتقل فيه ابني إلى فصل آخر أو ربما مدرسة آخرى، أصبحت معلمة ابني هي مرجعي الأول إذا احتجت لنصيحة خاصة به.
معلمة ابني الرائعة
أتذكر حين جلست معي في آخر اجتماع لنا وحدثتني بشغف عن تطوره داخل الفصل، عن صداقاته التي كونها خلال سنتين، وعن فخره وحبه الشديد لتلك العصا التي صنعها بنفسه من فرع خشبي قام بانتقائه من الغابة وقصه وتهذيبه إلى أن أصبح ناعما وجاهزا لرحلة المشي الطويلة في آخر يوم دراسي له؛ بعدها أخرجت المعلمة المساعدة ورقة ملونة وقلما ذهبيا وكتبت في منتصف الورقة اسم ابني وأخذا يتعلمان عن صفاته كما يريانها وكتبتها بخط جميل حول اسمه؛ (صدوق، حساس، روحاني، مرح ، فضولي، ذو خيال، صادق، طيب القلب ……).
مازلت أحتفظ بهذه الورقة كشهادة تخرج من نوع مختلف، أرجع إليها بين الحين والآخر وفي كل مرة تجعلني أبتسم.
اقرأ أيضا: فنلندا والتعليم.. أسباب التفوق والنجاح
عدنا مرة أخرى لمرحلة اتخاذ القرار، وهذه المرة كان أصعب لأنها ليست سنة أو إثنتين بل التزام قد يدوم إلى ٨ سنوات. فأمعنت البحث مرة أخرى، وكانت نتيجة بحثي خمسة اختلافات جوهرية بين نظام والدورف ونظام التعليم الحكومي وهي كالتالي:
١- لا يوجد كتب مدرسية، فالطلاب بمساعدة المدرس يقومون بإعداد وكتابة ورسم الكتب بأنفسهم.
٢- لا يوجد واجب منزلي قبل الصف الرابع الابتدائي.
٣- لا وجود للامتحانات المعيارية (Standardized testing).
٤- لا توجد أجهزة كومبيوتر بالمدرسة.
٥- يقوم الطلاب بدراسة لغتين أجنبيتين.
٦- بجانب الرسم والموسيقى، يقوم جميع الطلاب بأعمال يدوية كالخياطة والتريكو.
القرار مرة أخرى
كل هذة الاختلافات كانت من وجهة نظري إيجابية؛ فهو باختصار تعليم مدرسي ينقصه كل الأشياء التي كنت أمقتها وأنا في المدرسة (أثقال من الكتب، الواجب المدرسي، الامتحانات...) بجانب أن ابني سيتعلم أشياء قد يفتقر لها بحكم جيناته غير الفنية من الجانبين، أقصد افتقار والديه لتلك الاهتمامات؛ فقررنا أنا وزوجي أن نقوم بزيارة المدرسة مرة أخرى من خلال الجولة المدرسية للزوار المهتمين لنرى بأنفسنا ماهية الاختلافات على الطبيعة.
أتذكر جيدا دخولنا الصف الثالث الابتدائي أولا، استقبلنا الطلاب بأغنية ومقطوعة موسيقية مبهجة عزفوها على الفلوت (المزمار)، حدثنا االمدرس كيف أن الأطفال بدأوا العزف من الصف الأول الابتدائي وأنهم العام المقبل سيقومون باختيار تعلم آلة وترية بجانب الفلوت. بعد الانتهاء من عزفهم قاموا بوضع المزمار في كيس مغزول من الصوف صنعوه بأنفسهم العام الماضي.
انتقلنا بعد ذلك إلى الصف الأول الابتدائي، على لوحة الشرح رسم جميل لبجعة في بحيرة، شرحت لنا المدرسة كيف أنهم اليوم بصدد التعرف على حرف الـ s، فسيستمع الأطفال أولا إلى قصة مشوقة عن بجعة (Swan) في موسم الهجرة، ثم يقومون برسمها، ثم يدركون أن رأس البجعة وجسدها يشكلان الحرف s.
شرح لنا المدرس الألماني الجنسية كيف أن الموسيقى والرسم يتداخلان بشكل تلقائي غير دخيل في كل المواد الدراسية، وأن المدرس يؤمن أن في كل طفل بيكاسو وموتزارت كامنا في انتظار أن يتم إيقاظه وتنميته.
توجهنا بعدها إلى الصف الثامن، واقترح مدرس الفصل أن يقوم الطلبة بتقديم أنفسهم وربما مشاركتنا ما يدرسون الآن من خلال عرض كتبهم علينا. وهنا ثبت لي صحة كلام مدرس الصف الأول، انبهرت بمستوى الطلبة الفني من خلال كتبهم، فالكل عنده حرص شديد على الجمال والابتكار، والكتب التي تتحدث عن الشيء نفسه كلها مختلفة وأقل ما يقال عنها أنها أعمال فنية، الشيء الأجمل أنها كانت كتب علم الأحياء والدرس، عن تشريح قلب الإنسان ووظائفه.
مصروفات المدرسة
بالرغم من أن المدرسة غير مدعومة من الدولة، وكل مدارس والدورف غير هادفة للربح وتتبع نظام الميزان التنازلي، فستجد المصاريف تتراوح بين ٢٠٠ و٢٠٠٠ دولار شهرياً، حسب الدخل السنوي لكل عائلة، وذلك لضمان التنوع الاجتماعي بالمدرسة، وهو شيء نادر الحدوث في المدارس الخاصة.
اليوم ابني الأكبر في الصف الثالث الابتدائي بالمدرسة، وهو قارئ جيد، مغرم بكل ما هو حسابي، يعزف الفلوت بانسيابية، يمتلك iPhone و iPad و Xbox …. قام بتصميمها وصناعتها بنفسه من ورق الكرتون! ويقوم حاليا بصناعة علم فريقه المفضل لكرة القدم (الأرجنتين) من الكروشيه. وابني الأصغر ذو الستة أعوام مازال يصنع الخبز ويقوم بغسل الأطباق وتسلق الأشجار وزراعة الحديقة كل يوم في المدرسة.
أما عن رحلتنا اليومية الطويلة من وإلى المدرسة؛ فقد أصبحت وقتي المفضل لسماع قصصهم عن المدرسة، مساعدتهم على حفظ القرآن، أو ببساطة الاستماع إلى أحاديثهم الصغيرة حين ينسون أنني معهم.
اقرأ أيضا: ماذا تعرف عن نظام التعليم الحر "Stem"؟