لازمت المجتمع السوري صفة الجديّة بمعناها السكوني الجاف الخشن والمعقّد فترة زمنية طويلة لتأتي المفارقة مع قدرة هذا المجتمع الفائقة في التعبير عن نفسه وهمومه وأوجاعه وآلامه ومآسيه وحياته من خلال السخرية والتهكّم الراقيين، من الغريب أن أتت هذه المفارقة وجاء هذا النقيض، وصعدت هذه الصفة الحيّة إلى السطح مع .. الموت.
منذ انطلاقتها 2011 حملت الثورة السورية أولى خطوات التحرر من قيود الذهنية المغلقة، أظهرت بجلاء أن ذاك التقوقع داخل المفاهيم التربوية العامة للأنظمة الدكتاتورية بما تحمل من رؤى ونظريات قومجية بعثية أو اشتراكية مشوهة النقل والتطبيق لم تصل رغم فرض سلوكياتها ومحاولات تكريسها بالقوة إلى حدود التجذّر الذهني أو التحنّط الفكري مطلقا، وعلى كافة المستويات، لا السياسي منها فحسب، لقد أطلقت ثورة السوريين العنان للعقل المبدع نحو آفاق غير محدودة، ولربما كانت الحالة السلمية التي بدأت مسيرتها بها أن شكلت العامل الحاسم في هذه النقلة، فالحراك السلمي بطبيعته يقتضي استخدام أدوات إنسانية حسية فكرية وفنية للتعبير عنه وحمل أفكاره وأهدافه ونهجه.
المفارقة الثانية وهي أحد الأدلة ـ ربما ـ على أن تلك النقلة هي حالة سورية بامتياز وصفة اجتماعية عامة، أن الأسلوب الساخر في التعبير عن الواقع السوري الراهن لم يقتصر على أهل الثورة أو من آمن بها منهم فقط، بل تعداهم إلى مؤيدي النظام أيضاً والشارع المضاد لها وصولا إلى عناصره المقاتلة حتى، إذ تظهر الكثير من التسجيلات الصوتية والمصورة أعمالا فنية بسيطة تحمل حسّ السخرية وبقوالب مختلفة لمقاتلين مع النظام يسخرون من أنفسهم وحالاتهم المزرية ومن أوضاع وسلوكيات الجيش الذي يقاتلون تحت رايته.
تناسبت آلية السخرية كأداة وطريقة في التعبير عن واقع الحال طردا مع وتيرة الموت المتصاعد بأشكاله المختلفة فكلما اشتد وتعاظم، ارتقت معه حالات التعبير الساخرة، بدأت الظاهرة بمقاطع مصورة لهواة من أرض الحدث .. تعود بنا الذاكرة هنا، كمثال، لأوليات هذه التجارب، فقد أظهرت شباناً حماصنة يحاكون اقتحام مليشيات النظام لأحد أحياء حمص القديمة، فيتصدون لها بـ"قساطل الصوبيات"على أنها قواذف "آر بي جي".. ويستخدمون ثمار الباذنجان كقنابل يدوية.. يظهر المشهد حالة من التهكم الصارخ وكما هائلا من السخرية والفكاهة أمام الموت القادم على الحي.
ومع الوقت وانتشار وسائل الإعلام ومحطاتها ومواقع التواصل الاجتماعي وتعددها بدأت الظاهرة تأخذ شكلا أكثر احترافية ودراسة وتوجيه، بدأت البرامج المتلفزة الساخرة بالظهور (برنامج عنزة لو طارت مثالاً). وأخذت الأغنية الساخرة كلاماً ولحنا وأداء أسلوبا أكثر دقة واحترافية على مستوى الصناعة انتقل بها من الأزقة والحواري الضيقة خلال المظاهرات والنشاطات إلى فضاءات أوسع وأشمل، (فرقة الدب الروسي مثالاً).. بدأ الرسم الغرافيتي والكاريكاتيري الساخريين ينتقلان عن جدران المنازل المهدّمة والحافلات المحترقة واللافتات المحمولة في الاعتصامات نحو مواقع وصفحات إلكترونية (صفحة الفن والحرية مثالاً) .كما انتشرت المعارض الحية وازدادت المشاركات والندوات فاتسعت الشريحة المستهدفة من الرسالة الفنية الإعلامية الثورية إذا صح التعبير.
كان للسخرية كإسلوب تعبيري وبعد انتقالها إلى حالة اجتماعية عامة وكفن طارئ على الحالة السورية الراهنة خصوصا "زمن الثورة" أن اقتضت تنازل الفنان أو صاحب المنجز الفني عن اسمه، أي عن نرجسية الظهور ورغبة البروز، وذهب الفعل نحو مفهوم أسمى ـ الفن من أجل الحرية ـ والأمثلة كثيرة في هذا السياق مع الكم الهائل من الأسماء المستعارة لمبدعين آثروا التنازل عن هذا الحق، ويمكن للـ"الرجل البخاخ" أن يكون أكثرها وضوحاً.
كان للبسمة المرتسمة على الوجوه المدماة التي تصنعها السخرية الملحقة بها بالضرورة، فعل أكثر أهمية من حالة التعبير ربما، كان لها وظيفة إعادة شحذ الهمم وبعث الطاقة في النفوس، ولا سيما أن حجم الإحباطات والانكسارات والكوارث التي طاولت الشعب السوري، فاقت كل التصورات وتجاوزت معظم السيناريوهات الهوليوودية .. هناك من تلك الابتسامات العابرة كانت تُشحذ مفاتيح الاستمرار.
لعل السخرية بالمعنيين الفني الخاص والاجتماعي العام كانت من أرقى أشكال التعبير التي أفرزتها الثورة السورية ومن أكثرها دقة وموضوعية في رسم الواقع ومحاكاة الألم ورفع صوت الحق بالحياة الكريمة، في المقابل، ولعلها المفارقة الثالثة هنا، أن كان للسياسة أن حملت ولا تزال أسوأ شكل من أشكال التعبير عنها، وأكثرها ابتعاداً عن جوهرها وهدفها. ما يشي بأن من يمارسها عمليا إنما يتعاطاها باسم السوريين وبالإنابة القسرية عنهم وخارج أطر أرواحهم وإراداتهم ومبتغاهم.. السخرية أظهرت أجمل القيم الإنسانية التي حملها السوريون الثائرون الساخرون حتى من موتهم، بينما وضعت السياسة أبشع ما فيهم داخل إطار.
إن ثورة السوريين في جوهرها ثورة على الموت .. بما فيه موت الابتسامة على وجوههم.
(سورية)
منذ انطلاقتها 2011 حملت الثورة السورية أولى خطوات التحرر من قيود الذهنية المغلقة، أظهرت بجلاء أن ذاك التقوقع داخل المفاهيم التربوية العامة للأنظمة الدكتاتورية بما تحمل من رؤى ونظريات قومجية بعثية أو اشتراكية مشوهة النقل والتطبيق لم تصل رغم فرض سلوكياتها ومحاولات تكريسها بالقوة إلى حدود التجذّر الذهني أو التحنّط الفكري مطلقا، وعلى كافة المستويات، لا السياسي منها فحسب، لقد أطلقت ثورة السوريين العنان للعقل المبدع نحو آفاق غير محدودة، ولربما كانت الحالة السلمية التي بدأت مسيرتها بها أن شكلت العامل الحاسم في هذه النقلة، فالحراك السلمي بطبيعته يقتضي استخدام أدوات إنسانية حسية فكرية وفنية للتعبير عنه وحمل أفكاره وأهدافه ونهجه.
المفارقة الثانية وهي أحد الأدلة ـ ربما ـ على أن تلك النقلة هي حالة سورية بامتياز وصفة اجتماعية عامة، أن الأسلوب الساخر في التعبير عن الواقع السوري الراهن لم يقتصر على أهل الثورة أو من آمن بها منهم فقط، بل تعداهم إلى مؤيدي النظام أيضاً والشارع المضاد لها وصولا إلى عناصره المقاتلة حتى، إذ تظهر الكثير من التسجيلات الصوتية والمصورة أعمالا فنية بسيطة تحمل حسّ السخرية وبقوالب مختلفة لمقاتلين مع النظام يسخرون من أنفسهم وحالاتهم المزرية ومن أوضاع وسلوكيات الجيش الذي يقاتلون تحت رايته.
تناسبت آلية السخرية كأداة وطريقة في التعبير عن واقع الحال طردا مع وتيرة الموت المتصاعد بأشكاله المختلفة فكلما اشتد وتعاظم، ارتقت معه حالات التعبير الساخرة، بدأت الظاهرة بمقاطع مصورة لهواة من أرض الحدث .. تعود بنا الذاكرة هنا، كمثال، لأوليات هذه التجارب، فقد أظهرت شباناً حماصنة يحاكون اقتحام مليشيات النظام لأحد أحياء حمص القديمة، فيتصدون لها بـ"قساطل الصوبيات"على أنها قواذف "آر بي جي".. ويستخدمون ثمار الباذنجان كقنابل يدوية.. يظهر المشهد حالة من التهكم الصارخ وكما هائلا من السخرية والفكاهة أمام الموت القادم على الحي.
ومع الوقت وانتشار وسائل الإعلام ومحطاتها ومواقع التواصل الاجتماعي وتعددها بدأت الظاهرة تأخذ شكلا أكثر احترافية ودراسة وتوجيه، بدأت البرامج المتلفزة الساخرة بالظهور (برنامج عنزة لو طارت مثالاً). وأخذت الأغنية الساخرة كلاماً ولحنا وأداء أسلوبا أكثر دقة واحترافية على مستوى الصناعة انتقل بها من الأزقة والحواري الضيقة خلال المظاهرات والنشاطات إلى فضاءات أوسع وأشمل، (فرقة الدب الروسي مثالاً).. بدأ الرسم الغرافيتي والكاريكاتيري الساخريين ينتقلان عن جدران المنازل المهدّمة والحافلات المحترقة واللافتات المحمولة في الاعتصامات نحو مواقع وصفحات إلكترونية (صفحة الفن والحرية مثالاً) .كما انتشرت المعارض الحية وازدادت المشاركات والندوات فاتسعت الشريحة المستهدفة من الرسالة الفنية الإعلامية الثورية إذا صح التعبير.
كان للسخرية كإسلوب تعبيري وبعد انتقالها إلى حالة اجتماعية عامة وكفن طارئ على الحالة السورية الراهنة خصوصا "زمن الثورة" أن اقتضت تنازل الفنان أو صاحب المنجز الفني عن اسمه، أي عن نرجسية الظهور ورغبة البروز، وذهب الفعل نحو مفهوم أسمى ـ الفن من أجل الحرية ـ والأمثلة كثيرة في هذا السياق مع الكم الهائل من الأسماء المستعارة لمبدعين آثروا التنازل عن هذا الحق، ويمكن للـ"الرجل البخاخ" أن يكون أكثرها وضوحاً.
كان للبسمة المرتسمة على الوجوه المدماة التي تصنعها السخرية الملحقة بها بالضرورة، فعل أكثر أهمية من حالة التعبير ربما، كان لها وظيفة إعادة شحذ الهمم وبعث الطاقة في النفوس، ولا سيما أن حجم الإحباطات والانكسارات والكوارث التي طاولت الشعب السوري، فاقت كل التصورات وتجاوزت معظم السيناريوهات الهوليوودية .. هناك من تلك الابتسامات العابرة كانت تُشحذ مفاتيح الاستمرار.
لعل السخرية بالمعنيين الفني الخاص والاجتماعي العام كانت من أرقى أشكال التعبير التي أفرزتها الثورة السورية ومن أكثرها دقة وموضوعية في رسم الواقع ومحاكاة الألم ورفع صوت الحق بالحياة الكريمة، في المقابل، ولعلها المفارقة الثالثة هنا، أن كان للسياسة أن حملت ولا تزال أسوأ شكل من أشكال التعبير عنها، وأكثرها ابتعاداً عن جوهرها وهدفها. ما يشي بأن من يمارسها عمليا إنما يتعاطاها باسم السوريين وبالإنابة القسرية عنهم وخارج أطر أرواحهم وإراداتهم ومبتغاهم.. السخرية أظهرت أجمل القيم الإنسانية التي حملها السوريون الثائرون الساخرون حتى من موتهم، بينما وضعت السياسة أبشع ما فيهم داخل إطار.
إن ثورة السوريين في جوهرها ثورة على الموت .. بما فيه موت الابتسامة على وجوههم.
(سورية)