لم يكن سيناريو تقسيم سورية إلى دويلات على أساس عرقي وطائفي أقرب إلى التطبيق مما هو عليه اليوم، وإن كان التخطيط والإعداد له لم ينقطع يوماً، منذ أن قام نظام الأسد بوضع الخطة "ب" كسيناريو بديل يمكن له اللجوء إليه في حال فشل في قمع الثورة الشعبية.
وهو سيناريو لا يزال يكسب النقاط يوماً بعد يوم، مع دخول اللاعبين الإقليميين والدوليين على خط النزاع، وتصاعد تدخلهم، المتمثل بدعم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ذي النزعة الانفصالية، والذي يعتبر الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وكذلك تشجيع الأسد على التفكير بكانتون طائفي، كملجأ أخير، آمن ومصان دولياً، على اعتبار أن عيون المجتمع الدولي تعمى عن كل انتهاك ما لم يطل أقلية.
التدخل الإيراني سابقاً كان مجدياً في بدايته لإطالة أمد الصمود في صفوف قوات الأسد، لكنه لم يلبث أن بلغ سقفاً محدداً لم يستطع تجاوزه، ما أدى لسلسلة خسائر مدوية، سقطت خلالها في قبضة الثوار السوريين العديد من معاقل تلك القوات، بعد أن ظلت خاضعة طيلة السنوات السابقة لسلطة الأسد.
ورغم أن إيران شجعت حليفها على البدء بتطبيق الخطة "ب" المتمثلة باللجوء إلى إقامة دويلة علوية على أنقاض الدولة المنهارة، تخضع لسلطتها محافظات اللاذقية وطرطوس ومدينة حمص وريفها العلوي بالإضافة إلى ريف حماة الغربي والتخلي عند أول معركة عن العاصمة والمدن السنية الكبرى وعدم استنزاف الموارد فيها، وهو سيناريو كانت طهران لتدعمه بكل طاقتها لو تحقق، لأنه يعني عدم تضييع الاستثمار المالي والاقتصادي والعسكري في النظام بضمان استمراره ولو في نطاق جغرافي أضيق، ولكن بجدوى أكبر واستمرارية أطول، وهو سيناريو لم يكن النظام ليطمئن له، ما دامت الدويلة محاطة من كل الجهات بأطراف معادية، ناهيك عن أوضاع دولية مضطربة وبؤس الاقتصاد الإيراني، السند الأكبر لتحقق سيناريو مماثل، ما استدعى من النظام إدخال فاعل جديد إلى المعادلة، لكن بكلفة أكبر وتغيير في الولاء، وهو التدخل الروسي.
وبالفعل،
أكسب هذه المرة الكيان الذي يقيمه الحزب الكردي الانفصالي، الذي يسمى "الإدارة الذاتية"، قوة جديدة وبعث فيها الحيوية من جديد، بعد أن تلقت ضربة قاصمة عندما أوشكت عين العرب - كوباني، أحد 3 كانتونات تتبع للإدارة الذاتية في ذلك الحين، على السقوط بيد تنظيم داعش، مع ما رافق ذلك من استنزاف للمليشيات الكردية في الأرواح والعتاد والأموال، بيد أن استراتيجية أوباما في إعادة رسم الصراعات في المنطقة على أساس الحرب على داعش تكفلت بتعديل كفة الميزان، ودعمت الإدارة الأميركية المليشيات الكردية، الأمر الذي نجم عنه سيطرتها على مدينة رأس العين الحدودية، وهي أول منطقة ذات غالبية غير كردية تسيطر عليها تلك المليشيات، لتعلن في وقت لاحق أنها رابع كانتونات الإدارة الذاتية.
استمر المد الانفصالي شمال سورية حتى كسب بعض الانتصارات الميدانية، لكن زخم هذه الانتصارات تضاعف بعدما قامت تركيا بإسقاط المقاتلة الروسية فوق المنطقة الحدودية بين البلدين، الأمر الذي ردت عليه موسكو بسلسلة إجراءات، كان أبرزها الانضمام إلى واشنطن في دعم مليشيات الإدارة الذاتية، ولكن ليس لقتال داعش بل لقتال فصائل المعارضة وانتزاع الأراضي منها وبالتنسيق الكامل مع قوات الأسد، وهذا ما برز جلياً بعدما استطاعت الأخيرة فك الحصار عن قريتي نبل والزهراء في ريف حلب الشمالي تحت وابل من القصف الروسي الجنوني، ما وفّر للمليشيات الكردية فرصة الخروج من عفرين والانقضاض على نواحي الريف الشمالي بعد قطعه عن أحياء مدينة حلب.
تعاظمت المخاوف مع سيطرة المليشيات الكردية على مطار منغ العسكري ثم مدينة تلرفعت، ليجعل طريقها ممهّداً نحو شرقي الفرات أقرب من أي وقت مضى، ولتكشف هذه المليشيات عن المزيد من نواياها الانفصالية التي نفتها مراراً في السنوات الماضية، وتطلق اسم "القائد أوجلان" على مطار منغ، كمؤشر على طبيعة التحرك العسكري الكردي المدعوم أميركياً وروسياً وأيضاً من قبل قوات الأسد في آن معاً.
مع الإعلان عن مسار فيينا قبل تبنيه من قبل مجلس الأمن نهاية العام الماضي ضمن القرار الدولي 2254، بات الأسد في موقع أفضل على صعيد التسوية السياسية، التي ضمنت له، وفقاً لاتفاق فيينا، عدم تفكك نظامه ولم تنص على رحيله، ولا حتى على منعه من الترشح للانتخابات المزمعة، ما يعني تراجع سيناريو الدويلة العلوية، لكن المعطيات الميدانية، وكذلك السياسية، تشير إلى تعزيز سيناريو قيام كيان كردي بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي الانفصالي المعادي لتركيا وللشعب السوري، والمتواطئ مع نظام الأسد سياسياً وعسكرياً، ولا سيما أن مليشيات الحزب في حال دخلت في حرب مع قوات داعش في ريف حلب الشرقي وصولاً إلى محافظة الرقة شرقاً، ستكسبه مزيداً من الشرعية السياسية لإنشاء الكيان المرتقب، بما أن الحرب على داعش باتت اللغة الوحيدة التي تفهمها القوى الدولية، أو بالأحرى تحصر بها فهمها للأمور.
(سورية)