منذ أن انفصل الحراك عن قاعدته الشعبية في الشارع الأردني، بعد تظاهرات "هبّة تشرين" عام 2012، بتأثير القبضة الأمنيّة التي مارستها الحكومة، مسوّقةً شعار "الأمن والأمان"؛ انسحب الناشطون من الساحات والشوارع، ليتّخذوا من الفضاء الإلكتروني مقرًا رئيسًا لهم، حاملين معهم شعاراتهم ومطالبهم، بالتزامن مع إشعال هذه الإجراءات مخاوفَ الشارع من تكرار المشهد الذي تمخّض عن الانتفاضات العربية في دولٍ مجاورة، مثل سورية ومصر.
سرعان ما تعاملت الحكومة مع الوضع الجديد الذي اتخذه الحراك الشبابي؛ إذ يرى حقوقيّون أنها طوّعت قانون المطبوعات والنشر لمراقبة وضبط ما يُنشر عبر الصحف الإلكترونية والمكتوبة، فأغلقت من خلاله 291 موقعًا إلكترونيًا.
إلّا أن هذا القانون لم يكن كافيًا لتكميم أفواه الناشطين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يقول المحامي خالد خليفات، في حديثٍ إلى "جيل العربي الجديد"، موضّحاً: "أرادَ المُشرّع التحكم بما يُنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلّا أن قانون المطبوعات والنّشر لم ينص على حبس واعتقال الصحافيين والنشطاء بناءً على ما ينشرونه من آراء، واكتفى بفرض غرامات ماليّة".
استدركت الحكومة هذه النقطة؛ فعملت على تطبيق "المادة الثالثة / ب" من قانون منع الإرهاب المعدّل لعام 2014، على ما يُنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي اعتبرت "القيام بأعمال من شأنها أن تعرّض المملكة لخطر أعمال عدائيّة أو تعكّر صلاتها بدولة أجنبيّة أو تعرّض الأردنيين لخطر أعمال ثأريّة تقع عليهم أو على أموالهم"، عملًا إرهابيًا محظورًا.
كان التضييق على الحراك، من خلال ملاحقة ما ينشرهُ الناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ضربة قاسية للقوى السياسية والشعبية المعارضة. في هذا السياق، يقول منسّق حملة "ذبحتونا" للدفاع عن حقوق الطلبة، فاخر دعّاس، في حديث إلى "جيل العربي الجديد": "أي تشريع يقيّد حريّة التعبير هو بالضّرورة يساهم في ضرب وإضعاف قدرة المعارضة على مواجهة السياسات الحكومية بشكل عام؛ بالتالي فإن قانونَي الجرائم الإلكترونية ومحاربة الإرهاب قد ساهما –في بعض موادهما- في إضعاف الحراك وقدرته على التحشيد".
خلال أقل من عام، ألقت الأجهزة الأمنية القبض على عشرة صحافيين وناشطين بتهم تقع تحت خانة الإرهاب والجرائم الإلكترونية، بحسب خليفات، على خلفيّة مشاركتهم منشورات ومقالات عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الصحف الإلكترونية، انتقدت فيها أداء الحكومة أو سلّطت الضوء على قضايا تتعلق بالفساد وقمع الحريّات وموقف الحكومة، مما يحدث حولنا من نزاعات.
وفيما تحتج بعض الجهات الحقوقية والقوى السياسية على محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكريّة، مثل "محكمة أمن الدولة"، يرى خليفات أن المشكلة أبعد من ذلك: "ليست المشكلة في هويّة الجهة التي تُحاكم وتعتقل الناشط، فالمشكلة تكمن بسجنه لمجرد نشره أفكارًا وآراء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بغض النّظر إن كانت هذه الجهة مدنية أم عسكرية، فهو بالنهاية سيقضي عقوبة الحبس".
وفي ظل حظر ممارسة النشاطات السياسية والحزبية داخل الجامعات، كانت وسائل التواصل الاجتماعي الملاذ الأخير لهذه القوى الشبابية للتعبير عن آرائهم، ومحاولة خلق مجموعة ضغط على سياسات الحكومة، إلّا أنّ الملاحقات الأمنية طاولتهم في الفضاء الإلكتروني أيضًا، كما يشير دعّاس:
"اعتُقِلَ هيثم عايد، الطالب في كلية الطب، على خلفية آراء سياسية نشرها على صفحته، وهذا مؤشر خطير على انتقال تطبيق هذه العقوبات داخل الجامعات الأردنية، فقد حُوّلَ طلبة إلى التحقيق في الجامعات الرسمية ووجهّت إليهم عقوبات وصلت في بعض الأحيان إلى حد الفصل على خلفية تعليق على موقع فيسبوك".
وما يثير قلق الناشطين؛ أن تطبيق هذه العقوبات يوحي بوجود انتقائيّة تهدف إلى توجيه رسالة لأفراد المجتمع بضرورة لعب دور المتفرّج تجاه كل ما يتعلق بسياسات الحكومة. يضيف دعّاس: "لو طبّقت هذه المواد على الجميع، كما حدث مع هيثم عايد، لوجدنا آلاف المُعتقلين في السجون حالياً؛ إلّا أن الحكومة تستخدمه كأداة ضغط على المواطنين؛ كورقة في يدها تلوّح بها في وجه كل من ترى أنه يخالف سياساتها".
بالنسبة إلى ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي، يبدو الأمر وكأن أحدًا يحدّق فيهم من خلف الشاشة، محوّلًا أفكارهم وآراءهم إلى أشياء مجرّدة، لا تحمل أي أبعاد إنسانية أو حقوقية، محاولًا فرض نفسه كرقيب ذاتي على ما يكتبون.
يشير إلى ذلك الناشط الشبابي، عدي نوفل: "الغالبية الأكبر من الناشطين باتوا يترددون بالكتابة والتعبير عن آرائهم عبر الفضاء الإلكتروني؛ بدافع تجنب الوقوع في مأزق مع الجهات الرقابية والحكومية". وعن محتوى وجدوى وسائل التواصل في الأردن في ظل هذه العقوبات، يضيف نوفل: "تراكميًا، ستتسبب هذه الإجراءات في تفريغ مواقع التواصل الاجتماعي من المحتوى البنّاء؛ وبالتالي تحويلها إلى وسيلة للعلاقات الاجتماعية وتبادل التهنئة والعزاء فقط".
يرى المراقب للشأن السياسي في الأردن، أن الحكومة اختارت لنفسها أن تكون مركزًا في دائرة العلاقة بينها وبين الشعب، وفرضت على "الآخر"، بحسب نظرتها لأطياف المعارضة، أن يكون هامشيًا فقط، وكل ما اتخذته من إجراءات، منذ احتجاجات "هبة تشرين" وحتى اليوم، لا يعدو أن يكون مجرد دراسة لردود فعل الشارع، ليس بقصد الاطلاع على مشاكله، ولا للتقريب بين وجهات النظر، وإنما لإعادة إنتاج نفسها كمركز، وتأكيد وجود الرأي الآخر على الهامش.