سافر إلى بريطانيا طالباً للجوء السياسي نهاية العام الماضي، بسبب ملاحقات قضائية في الجزائر، تسببت مرّة في سجنه لمدة أّربعة أشهر بتهمة "التّحريض على التجمهر غير المسلّح" على موقع فيسبوك. طالت هذه الاتهامات أفراداً من أسرته، وتعرّض منزله إلى المداهمة والتفتيش ومصادرة أجهزته. الناشط الحقوقي رشيد عوين اكتشف أثناء التحقيق، أن النشر على مواقع التواصل الاجتماعي لم يكن إلا "ذريعة" لتبرير عملية اعتقاله.
بدءاً بـ "إهانة هيئة نظامية"، مروراً بـ "التحريض على التّجمهر"، ووصولاً إلى "المساس بأمن الدولة"، تهمٌ يمكن تكييفها، للزّج بالمدوّنين والنّاشطين الجزائريين على مواقع التواصل الاجتماعي في السّجن. فنشر صورٍ تنتقد الرئيس الجزائري، أو نشر فيديوهات تُظهر اعتداء رجال الأمن على المتظاهرين، أو كتابة منشورات تدعو إلى الاحتجاج في ساحةٍ عمومية، كلّها تُهمٌ كافية للحصول على إقامةٍ طويلة الأمد وراء القضبان.
الشاب عبد الغني علوي، صاحب 24 سنة، واجه تهمة "إهانة هيئة نظامية متمثلة في شخص رئيس" وتهمة "الإشادة بأعمال إرهابية"، بسبب نشره صوراً مركبة وساخرة من الرئيس بوتفليقة قبل انطلاق حملته الانتخابية، وحُكم عليه بستة أشهر حبساً نافذاً، ولأول مرة تُصدر "منظمة العفو الدولية" (أمنيستي) بياناً للدفاع عن الناشطين الإلكترونيين، اعتبرت فيه اعتقال علوي بـ"التعدّي الخطير" على الحريات الفردية والجماعية، واتّهمت السلطات الجزائرية بخنق الأصوات المعارضة قبل الانتخابات.
حملة الاعتقالات التي شهدتها الجزائر ضد ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، أظهرت أن الرقابة الإلكترونية تُمارس ضدّ أشخاص تشعر السلطة أنهم يشكّلون "خطراً" على مصالحها؛ ناشطون سياسيون، مدوّنون، حقوقيون، ولو كيّفت الأجهزة الرّقابية تهمة "المساس بأمن الدولة" على كلّ مستخدمي فيسبوك الذين نشروا أو شاركوا صوراً تسخر من رئيس الجمهورية مثلاً، لتمّ إيداع آلاف المستخدمين الحبس، ومن بين أكثر الصفحات التي تنتقد سلطة الرئيس بوتفليقة، "شبكة راديو طروطوار" (إذاعة الرصيف) والتي قارب متابعوها نصف مليون شخص، إلى جانب صفحة "المنظمة الجزائرية لمناهضة الشيتة والشياتين" والتي قارب متتبعوها 300 ألف.
في هذا السياق، يقول النّاشط الحقوقي رشيد عوين في حديثٍ إلى "جيل العربي الجديد": "الرّقابة الإلكترونية هي رقابة انتقائية لا تمسّ إلاّ النّشطاء الحقوقيين والسياسيين الذي يمارسون نشاطهم في الميدان، والمنتقدين الحقيقيين لنظام الحكم". ويؤكّد: "التهمة التي نُسبت إليّ ملفقة. هي تصفية حسابات ضيّقة، بل كان اعتقالاً سياسياً انتقامياً، وتهمة التحريض على التّجمهر، كانت من أجل إضفاء شرعية مفبركة".
فساد موثّق
تورّط عوين أيضاً في قضية أخرى، والتهمة هذه المرّة كانت "إهانة هيئة نظامية عن طريق وسيلة معلوماتية"، حين قام بتنزيل فيديو يظهر أثار ضرب مبرح تعرّض له شاب على يد أعوان الأمن، وذلك على خلفية مشاركة الشاب في احتجاجات مناهضة للانقطاعات المتكرّرة للتيار الكهربائي عام 2012.
حكمت المحكمة على عوين بغرامة مالية قدرها 500 ألف دينار جزائري بحجّة أن الشريط مفبرك، أما الشاب الذي ظهر في التسجيل، فتمّ استدعاؤه كشاهد فقط، رغم تقديمه شكوى ضدّ وزارة الدفاع مرفوقاً بشهاداتٍ طبّية تُثبت تعرّضه للاعتداء.
ومن أكثر القضايا المشابهة لقضية عوين، الحكم على الشاب يوسف ولد دادة (متخصص في الإعلام الإلكتروني)؛ إذ نشر شريطاً على موقع يوتيوب، يُظهر ثلاثة عناصر من رجال الشرطة متلبّسين بعملية سرقة، أثناء المظاهرات التي شهدتها محافظة غرداية جنوب الجزائر. وبدل محاسبة رجال الشرطة، حكم على ولدة دادة بسنتين سجناً نافذاً وغرامة مالية بقيمة 100 ألف دينار جزائري، بتهمة "نشر صور وفيديوهات تمسّ بالمصلحة الوطنية وإهانة هيئة نظامية".
سقف الحرية الافتراضية
المتتبّع لقضايا المتابعات القضائية في الجزائر ضدّ المدوّنين والنّاشطين الإلكترونيين، يستنتج أن سقف الحرّية الافتراضية رُفع على عمودين، هما: "الأجهزة الأمنية" و"الرّئيس"؛ فالأولى تدافع عنها المؤسسات الأمنية الجزائرية وتتأسّس كطرف في القضية.
أما الثاني؛ فيدافع عنه أشخاص موالون للسلطة، تعرضّوا للانتقاد على شبكات التواصل الاجتماعي من طرف صفحات فيسبوك أو مدوّنين، يقودهم ذلك إلى القيام بدور الرقيب على خصومهم، ويترصّدون انتقاداتهم للنّظام والسلطة والرئيس للوشاية بهم والنّيل منهم، وهذا ما حدث بالضبط مع المدوّن كريم؛ "أدمن" صفحة "وان تو ثري فيفا لالجري"، أشهر الصفحات الجزائرية على فيسبوك، والتي يقارب عدد معجبيها مليون ونصف.
تعود قضية المدوّن كريم، إلى ما قبل رئاسيات نيسان/ أبريل 2014، حين دخل في صراع مع قناة خاصّة موالية للسّلطة، عُرفت باتهام خصوم الرئيس بوتفليقة السياسيين ومنتقديه بالإرهاب والتحريض على العنف والفوضى، كانت هذه القناة محلّ انتقاد واسع على صفحة "وان تو ثري فيفا لالجري" التي يديرها كريم.
مالك القناة الخاصّة رفع ضد كريم دعوى قضائية، اتّهمه فيها بالقذف والشتم والتهديد. المحكمة أمرت بإيداعه السجن لمدة 70 يوماً من دون محاكمة، إلى غاية انتهاء الانتخابات الرئاسية، وتمّ الحكم عليه بعدها بثلاثة أشهر سجن موقوفة النّفاذ.
يروي أدمن صفحة "وان تو ثري فيفا لالجيري" في حديث إلى "جيل العربي الجديد" تفاصيل الحادثة: "بثّت قناة خاصة تصويراً لي وانا أقوم بتغطية احتجاجات في الشارع ضدّ ترشّح الرئيس بوتفليقة لعهدة رابعة، اتّهمتني فيه بالإرهاب والتّحريض على التّجمهر وإثارة الفتنة، قمت بالرّد عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن طريق تسجيل مصوّر". يضيف المتحدث أن القضية أخذت بعداً آخر: "قامت القناة بإيداع شكوى ضدّي بناء على ما ورد في التسجيل ليتمّ حبسي على ذمّة التحقيق من دون محاكمة أو تحقيق لأكثر من شهرين، بعدها تمّت محاكمتي وصدر في حقّي عقوبة ثلاثة أشهر غير نافذة".
تهديدات غير أمنية
ليست المرّة الوحيدة التي تعرّض فيها كريم إلى ضغوط بسبب ما ينشره على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لذلك لأن صفحته من بين أكثر الصفحات الجزائرية تأثيراً على فيسبوك. يروي المتحدّث قصصاً أخرى؛ منها تعرضه إلى التهديد من طرف مالك شركة إنتاج تتعامل مع التلفزيون العمومي، كشفت الصفحة "وان تو ثري فيفا لالجيري" أنّ صاحب شركة الإنتاج يمتلك ملهىً ليلياً بالموازاة، وهو ما دفع بصاحب الملهى إلى إرسال حرّاسه إلى منزل كريم وتبليغه رسالة مفادها التوّقف عن النشر.
يقول كريم إن الضغوط التي يتعرّض لها ليست بسبب آرائه فقط، ولكن حتى بإعادة نشر ما تتداوله وكالات عالمية مثل "فضائح وثائق بنما"، التي تورّط فيها وزراء جزائريون، مضيفاً أن رجال الأمن جاؤوا إلى حيّه وبحثوا عنه بسبب ما نشره على صفحته.
فنانون وراء القضبان
الفنانون ليسوا بمنأىً عن الملاحقات القضائية إذا تغنّوا بالسياسية. فقبل سنوات، واجه الشاب عز الدين الشلفي، عقوبة السّجن لسنة كاملة، بسبب أغنية "شوف الحقرة" (انظر إلى التعسّف) التي حقّقت انتشاراً واسعاً على يوتيوب، انتقد فيها محافظ منطقة الشلف غربي الجزائر، ودعا فيها الفنان الرئيس بوتفليقة إلى التّدخل ورفع المظالم عن النّاس.
وفي عالم الفنّ دائماً؛ لم يكن الشاب فيصل أوفر حظاً من صديقه، فقد توبع قضائياً بسبب أغنية جرى تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر فيها الشاب فيصل في إحدى حفلاته وهو يؤدي أغنية تسخر من مدير الأمن الوطني السابق عبد الغني الهامل؛ ما دفع بمديرية الأمن الوطني إلى رفع دعوى قضائية توبع فيها الفنان بتهمة "إهانة الشرطة"، وأدين بعقوبة ستة أشهر سجناً غير نافذة.
من الرقابة إلى التجسّس
بمقتضى مرسومٍ رئاسي صدر العام الماضي؛ دخلت الجزائر مرحلة مراقبة الرّسائل الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي و"التنصّت" على المكالمات الهاتفية، بدعوى الوقاية من الأفعال الموصوفة بـ"جرائم الإرهاب" أو "التخريب" أو "المساس بأمن الدولة". ولكن رغم صدور هذا المرسوم؛ لم يعد بإمكان الأجهزة الرقابية في الجزائر، مواكبة الانتشار الواسع لصفحات التواصل الاجتماعي، وربما يعود ذلك إلى سببين اثنين، أولا: تأخّر صدور المراسيم التي تقنّن استخدام الإنترنت، وثانياً: العدد الكبير لمستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي والذين قاربوا على موقع فيسبوك إلى عشرة ملايين مستخدم، ترسّخت لديهم تقاليد معيّنة في انتقاد النظام وشخصية الرئيس ووزراء حكومته، هي "مكاسب" لم يعد بإمكان المستخدمين التّنازل عنها، ولم يعد بإمكان الأجهزة الرّقابية السّيطرة عليها.
يعلّق يونس قرار، خبير تكنولوجيات الإعلام والاتصال على هذا القانون، بأن الرّقابة الإلكترونية وحرّية التعبير مشكلة مطروحة في كل دول العالم، موّضحاً أن مراقبة الرسائل الإلكترونية والتنّصت على المكالمات الهاتفية، أمور لا يمكن القيام بها من دون إذن من الجهّات القضائية. ويضيف المتحدث أن الرقابة الإلكترونية لم تُفعّل للحدّ من حريّة الرأي، ولكن لحماية الأشخاص من التشهير، والقذف، وحماية الأطفال من المواقع الإباحية، ومنع قرصنة المواقع، مؤكداً أنه لم يسبق وأن تمّ حجب مواقع إلكترونية في الجزائر بسبب التوجّه الإيديولوجي.
يمكن القول إن النشطاء والمدوّنين الذين دُفع بهم إلى أروقة القضاء بسبب ما نشروه على الأنترنت مجرد "ضحايا مرحلة"، وهي الفترة التي عرفت فيها الجزائر الانتخابات الرئاسية، حتى أن معظم سجناء تلك الفترة (كريم، عبد الغني علوي، رشيد عوين) كانت فترة عقوباتهم متزامنة تقريباً، ما يوحي بأن السّلطات الجزائرية تعمّدت إخفاءهم لتمرير مشروع "العهدة الرابعة" للرئيس بوتفليقة، ربما؛ لأنها كانت ترى أن هؤلاء الناشطين قاموا بالتشويش على مشروعها.