على مدار خمسة عقود خلت، دأبت سياسات نظام البعث على سحق الثقافة الكردية، ومحو تفاصيلها من الذاكرة الجمعية. منعت سلطة الأسد لغتهم وأغانيهم وأعيادهم، ولم تذكر مدنهم وجغرافيتهم في كل ما يمت بصلة إلى منابع الثقافة العامة.
"عين العرب" أو "كوباني"، التي تتعرض لهجمة وحشية من جماعة موازية لنظام الأسد لناحية ثقافة المحو؛ واحدةٌ من مراكز الأكراد التي لا يمكننا أن نعثر على كثير من الوثائق، رسمية أو غير رسمية، تتناولها. لهذا، يكاد يكون فيلم "آي دل" (47 دقيقة، 2011)، للمخرج السوري زياد كلثوم، وثيقة نادرة عن مدينة يسعى الدواعش إلى تدميرها.
عُرض "آي دل"، أو "أيها القلب" في العربية، للمرة الأولى في "مهرجان لندن للفيلم الكردي"، بعد أن منع، إبان انطلاق الثورة السورية، من العرض في مهرجان "دوكس بوكس" في دمشق، لأسباب سياسية.
يروي الشريط، باللغة الكردية، حكايا مجموعة من النسوة الريفيات اللواتي يعشن في المدينة والقرى المجاورة. امرأة تعاني الأمرين لتعيل أطفالها بعد أن اعتقل زوجها منذ 15 سنة. تعمل لتؤمن حياتهم. يحاول أهل زوجها طردها، إلا أنها تصرّ على البقاء مع أطفالها، ولا يقف إلى جانبها سوى شقيق زوجها المقيم في اسبانيا، والذي لن يطول الوقت قبل أن تُفجع بوفاته منتحراً هناك.
امرأة كردية أخرى، ترعى إخوتها التسعة، وتفجع بثلاث منهم، إذ يموت اثنان في جبهات القتال في جبال كردستان، ويُقتل الثالث أثناء تأديته الخدمة العسكرية في الجيش السوري، أيام ما قبل الثورة.
يبدو كلثوم، في تجربته السينمائية الأولى، لوهلة، وكأنه يقدم مجموعة حكايا خاصة تكمن استثنائيتها في طبيعة المأساة اللاحقة بأفرادها فقط، إلا أن البناء البصري للفيلم سرعان ما يبدأ بتشكيل رؤية موازية، عامة، لكنها أكثر إلحاحاً: على الشخصيات، إن أرادت البقاء في مكانها، أن تشكّل أسطورتها الخاصة.
يأتي في هذا السياق تصوير الفيلم، في جزئه الأخير، قريةً مؤلفة من البيوت المهدمة، هجرها أهلها منذ عشرين سنة؛ قرية لا يسكنها أحد، ولا حقيقة عنها سوى ما ترويه بعض نساء القرية المجاورة. فضاءات الفيلم يجمعها البؤس، إذ تتماهى الشخصيات فيها مع كتل الحجارة الصلبة في المقابر والبيوت الحجرية.
ولا تظهر الفضاءات المفتوحة من سهول وتلال جبلية على أنها أقل قسوة؛ فالمرأة الجالسة إلى جانب جذع شجرة ضخمة تبدو الجزء الأساسي من مفردات هذا المكان المؤلف من حبل الغسيل والأرجوحة المهترئة والسهول المطلة على اللانهاية.
لا ينجو الفيلم من المباشرة أحياناً، خصوصاً في استعانة كلثوم بشخص يتحرك بزيّه الكردي مع آلة البزق خلال فعل الروي، ليؤدي صورة الرجل المفقود في الحكايا. بدا هذا خياراً مباشراً لا تحتمله شاعرية الفيلم التي تتخذ من التخيل أساساً في المقاربة بين فضاءات الحكايا المقدمة، وفضاءات عين العرب/ كوباني، من مقابر، وبيوت صخرية بائسة ومهجورة.