يسمح هامش الحريات في قناة مثل "بي بي سي-عربي" بإثارة قضايا حساسة تخص المنطقة العربية، لا يجرؤ كثير من الجهات الإعلامية العربية على فتح ملفها، مثل موضوع القنوات الطائفية التي تزدحم بها الأقمار الصناعية في السنوات الأخيرة. إنها "أثير الكراهية"، كما أطلق عليها الوثائقي الذي بثته القناة البريطانية، ورصدت خلاله ست قنوات من بين عشرات القنوات التي بحث عنها طاقم الفيلم الوثائقي أثناء فترة إعداده التي استغرقت ستة أشهر. وكان على فريق البرنامج، المكوَّن من المخرج عمر عبدالرازق والمقدم نور الدين زرقي، الالتقاء بعدد من "دعاة الكراهية" المحسوبين على المذهبين السنّي والشيعي في العراق والكويت ومصر وبريطانيا.
لقاء رموز تلك القنوات لم يكن سهلا بسبب خوفها من الملاحقة القضائية، وهذا ينطبق على الطرفين. ففي العراق ادعى ثائر الدراجي، أحد الدعاة الشيعة، أنه خارج البلاد، وبعد إلحاح، وافق على الالتقاء بفريق البرنامج في مكان يختاره هو، بعيدا عن أعين الرقباء، فهو مطلوب للسلطات العراقية بمذكرة اعتقال.
لا يتراجع ثائر عن خطابه المتطرف أمام كاميرا "بي بي سي"، ويصرّ على أن الإسلام الحقيقي هو إسلام التشيّع، أما غيره من اسلام، فيسمى دينا "بكريا أو عائشيا أو عمريا" نسبة إلى الصحابة وزوج النبي. وبالإضافة لمشاركة الدراجي في قناة "أهل البيت" التي يقودها الشيخ حسن الله ياري، ويدعمها ماليا، فهو ضيف دائم على الفضائيات يتواصل مع القنوات "السنّية" ليستفز مقدميها وضيوفها بآراء تسخر منهم ومن مذهبهم، فيستدرج بمداخلاته خطاب كراهية آخر من الجهة المقابلة.
يسأله زرقي من "بي بي سي" إن كان واعياً ان ما يفعله يساهم في سفك دماء المسلمين، فيرد بأنه "حتى دعوة النبي في بدايتها تسببت في سفك الدماء".
ويعكس كلام الدراجي فشل الحكومة العراقية في التغلب على الخطاب المذهبي الطائفي السائد الآن ولو ان المشكلة لا تتركز في ما يقدم في العراق فقط، ففي مصر يبث العديد من قنوات الكراهية الطائفية، السنّية هذه المرة، عبر "نايل سات"، حيث المجاهرة بالموقف المذهبي ظاهرة جديدة وقوية في مرحلة بعد سقوط مبارك.
تداخل الخطابين الديني والسياسي
ومن الرموز الشهيرة لهذه المرحلة في مصر الشيخ محمد الزغبي، الذي انتقل من موقف متشنج ضد الأقباط إلى موقف مضاد للشيعة، ويختلط في خطابه الديني بالسياسي، فينادي ربه، بحسب مقطع من خطبة جمعة في قرية على المتوسط تدعى "برج البرنص"، أن يحفظ مصر "من كيد اليهود والأميركان... ومن الروافض".
التجييش عموما يؤدي إلى ضحايا في الأرواح، مثل مقتل حسن شحاتة الداعية الشيعي في مصر مع ثلاثة آخرين، عندما هاجم جمع من سكان قرية "زاوية أبو مسلم" في صيف 2013 تجمعا لشيعة مصريين.
"قناة صفا" من القنوات التي ظهرت في السنوات الأخيرة، ولم يسمح بها في فترة مبارك، بحسب الوثائق. وهي أكثر القنوات تجهيزا ودعما ماديا. تتكتم القناة على مصدرها المالي، إلا أن المخرج حصل على وثيقة داخلية للقناة تشير إلى تمويل كبير يأتي من رجل الأعمال الكويتي خالد العصيمي.
ينتقل فريق البرنامج إلى الكويت. يرفض العصيمي الرد على هاتفه الجوال، ثم يقرّ في مكالمة قصيرة، بأنه لا يريد أن يكون تحت الأضواء في هذه القضية. من جهة أخرى، تقول مصادر مؤكدة أنه هو نفسه رئيس مجلس إدارة قناة "صفا" ولا يزال ممولا رئيسيا لها. اسم خالد العصيمي يرد في تسريبات "ويكيليكس" على أنه يموّل مجموعة إيرانية مسلحة مناوئة للحكومة، وأنه على صلة أيضا بمشروع قناة تملكها تلك الجماعة.
يحاول الوثائقي مقابلة أبو منتصر البلوشي، مؤسس ومدير قناة "وصال فارسي"، التي تبث من لندن والتابعة لمجموعة قنوات "وصال" في السعودية، إلا أنه لا يرد على الاتصالات، وعندما تفاجئه الكاميرا قرب بيته، يرفض الحديث ويرفض تهمة الترويج للكراهية، قائلا: "أنا أكره الكراهية الدينية".
لندن تضم الاضداد. أبو منتصر البلوشي ناشط سنّي إيراني، قدم إلى بريطانيا لاجئاً سياسياً، وأسس قناته بتبرعات من دول الخليج العربية لدعم السنّة في إيران. وهناك لاجئ آخر هو رجل الدين الشيعي ياسر الحبيب الذي وصل إلى لندن في عام 2004 بعد خروجه من السجن في الكويت، والذي دخله بعد إدانته بإهانة رموز دينية. وفي لندن أسس الحبيب "هيئة خدام المهدي"، وذراعها الإعلامية قناة "فدك". وكانت الهيئة قد اشترت مقراً في إحدى قرى الريف القريب من لندن، بما يوازي ثلاثة ملايين دولار. وإذا كان الحبيب يهاجم السنّة ورموزهم، فالبلوشي متخصص في إهانة الشيعة ومعتقداتهم. كلاهما لاجئ رأي، من أجل إهانة معتقدات الآخرين. وبمبالغ تنهال على الطرفين. فمن المستفيد يا ترى؟
الكراهية في زمن الفقر
في العراق ومصر، تدخل الكاميرا إلى قرى وأماكن يتضح فيها الفقر المدقع، أماكن متربة ومستنقعات طينية، لكن فقرها لم يمنع من تأجج الخلاف المذهبي فيها، بدل التركيز على قضايا المعيشة اليومية للسكان، وهي ظاهرة تؤكد حقيقة المستفيد من غياب النقد السياسي للحكومة والانشغال بانفعالات الكراهية مع المواطن الأخر المختلف. والأغرب أن نعرف، من خلال الوثائقي، أن تمويل تلك القنوات يستدرج المشاهدين البسطاء أنفسهم ايضا، الذين يقتطعون من لقمة عيشهم من اجل تمويل المستفيد من هذا الخطاب، إذ يعترف ثائر الدراجي بجمع 150 ألف دولار خلال شهرين لقناة "آل البيت"، "أغلبها جاء من فقراء الشيعة". أما قناة "صفا" فتطلب من مشاهديها أيضا التبرع لها على شاشتها.
ويذهب التبرع إلى مزيد من تأجيج الحقد الطائفي، بدل أن يذهب لتحسين أوضاع الناس وأماكن إقامتهم المعدمة على الأغلب.
لا رادع
تغيب التشريعات والعقوبات التي قد تردع خطاب الكراهية. في مصر سادت الفوضى في أعقاب سقوط مبارك وتراخت قوانين تنظيم البث الفضائي بصورة أكبر من السابق في ضبط توجهات القنوات. يقول المهندس صلاح حمزة، العضو المنتدب للنايل سات القمر الصناعي، الذي يحتضن هذه القنوات: لا نستطيع مراقبة 700 قناة تلفزيونية، إلا إذا وصلتنا شكوى بحق إحداها تقول إنها تحرّض على الكراهية، ما يعني خرقا لشروط العقد. و"خلال 15 سنة لم نوقف أي قناة، اذ كان أي خلاف ينتهي بالتراضي"!
وفي بريطانيا علقت هيئة "أوفكوم Ofcom"، المعنية بتنظيم الإعلام والاتصالات، حول معرفتها بنشاط قناة "فدك" (شيعية متطرفة)، أنها حققت في نشاطها في عام 2012 ولم تعثر على مخالفة، ولكن - والكلام لأوفكوم - "قدمنا لهم إرشادات عن كيفية التعامل مع الرموز التي تعتبر حساسة بالنسبة للآخرين". هذا رغم أن قواعد "أوفكوم" واضحة في أن أي مادة تسبب العنف أو قد تؤدي لإثارة العنف تعتبر مخالفة. لكنها لا تتحسس المشكلة على ما يبدو طالما ان متتالياتها لم تصل الى الاراضي البريطانية.
أما الكويت، ورغم ان قوانينها تجرّم خطاب الكراهية في وسائل الإعلام، فإن التمويل يخرج من مواطنين كويتيين لمصلحة قنوات من المذهبين تبث خارج البلاد وتشاهد في الكويت وغيرها، لكن لا يطاولها القضاء الكويتي.
أخيراً، من الملاحظات الملفتة في وثائقي "اثير الكراهية" أن جميع شيوخ الدين والمتحدثين في قنوات الكراهية تلك، يبكون، والجميع يحرّض على الآخر في خطاب قد يقود للقتل أو الأذى الجسدي. لكن لا قوانين تردع ولا جهات مجتمعية تحتج عليها وتتصدى لها، والنتيجة تزايد أعداد المشاهدين لها، وتستدعي كثرتهم بالتالي مزيدا من الخطاب المتشنج ضد الآخر المختلف عقائديا.
"أثير الكراهية" نموذج الأعمال التلفزيونية الجريئة المشغولة بحرفية، وكم يحتاج لها الاعلام العربي ليتصدى لخطاب يزعزع المجتمعات ولا يسهم في بنائها.