مع ذلك، ما إن يعلن عن معرض له في مدن العالم، حتى يهرع الناس إلى رؤية أنفسهم، ويقول الكثيرون إن هذه الأعمال ينبغي أن تكون ضمن مجموعات ثابتة. يؤيد باران ذلك بالقول: "أرسم تاريخي، ولا أفضل أن تغلق الأبواب على أعمالي".
يواصل سيروان باران مشروعه منذ 15 عاماً، ضد العبارة المعروفة "التاريخ يكتبه المنتصرون". هنا تاريخ آخر للضحايا والمهمشين والمهزومين.
حتى 22 إبريل/ نيسان المقبل، يستمر معرض "الجمال القاسي" في غاليري صالح بركات في بيروت، وكان معرضه في القاهرة اختتم الأسبوع الماضي بعنوان "ذاكرة لا تمحى".
عقب الاحتلال الأميركي لبغداد، أطلق الفنان دفعة واحدة ما كان يمور تحت جلده لمدة سنتين ونصف من الصمت، قبل الانخراط في مشروعه الذي يقوم بالخط العريض على مجاميع هائلة من البشر: جنود، وسجناء، وأسرى سواء للحروب أو أسرى القمع السياسي والمجتمعي.
بين هذه الكتلة البشرية هناك جنرال يظهر في نهاية المطاف جثة في مجسم قارب، لون القارب والجثة طيني، مستلهماً هذه الخامة من الحضارات العراقية القديمة، ثم ترسل الجثة في الماء إلى البحرين التي كانت تدعى ضمن الميثولوجيا السومرية "أرض الخلود".
يقول باران لـ"العربي الجديد": عمري 52 عاماً. لربما عشت سنتين أو ثلاثاً فقط من دون حرب. إن السلام غريب عليّ. لذلك قررت أن أقدم مأساة نصف قرن، من الانكسار وخيبة الأمل.
يضيف: "أثناء خدمتي في الجيش رساماً، كنت أمجّد الحروب. وظيفتي أن أدعم الحرب. إلا أن الحرب لها نياشين تظل تلمع والرصاص يلعلع، والذين يسقطون، لا أسماء لهم، حتى أن أيقونة "الجندي المجهول" بدت لي جارحة، وفكرتُ طوال الوقت بألا يبقى القتيل رمزاً مجهولاً، بل علي أن أنزل من المعاني المجردة إلى الإنسان المعرف وحقه في أن يقول: هذه ملامحي".
كنا أمام اللوحة الضخمة وعنوانها "الوجبة الأخيرة". استلهم مشهد "العشاء الأخير"، وهذه المرة يبدو المنظور من السماء، لجنود مقتولين وبجانبهم صحون وجبات الطعام. يقول: "أردت أن تكون السماء شاهداً على هذا القتل".
بأحجام طبيعية رسم باران الجنود، بحركة لولبية مقوسة، حتى تظل عين المشاهد متحركة، وحتى يلغي صفة الجمود من مشهد الموت.
يقرر الفنان أن يكون حجم الجنود طبيعياً، لأن ذلك يعطي "التعبير الحقيقي كأنك تقف أمام مرآة".
بهذه اللوحات الكبيرة المساحة، يقول إنه لم يفكر تقنياً كيف وأين تعرض؛ "هذا المشروع يلبي رغبتي" على حد تعبيره.
كذلك يبدو مجسم القارب بلونه الطيني وداخله جثة الجنرال مسجاة بكامل قيافتها ونياشينها، ذاهبة بلا عودة، بينما المجاميع بلا عد ظلت طوال الوقت حطباً للحروب.
كانت التجربة الأولى لقارب الجنرال الأخير من البرونز، بيد أن هذه الخامة النبيلة التي تدوم طويلاً لم تعطه الطاقة الدرامية التي يريدها، فوجد أن خامة الفايبر غلاس، بعد تجارب عديدة، هي الأقرب إلى الطين.
أسير حرب مربوط على كرسي، ومربوط العينين كذلك. تعمد الفنان أن يضع الرجل الذليل مقابل لوحة لجيش مهزوم مشوه في استعراض عسكري، ولكنهم جميعاً يتكئون على عكازات يقول: "هي جيوش عملاقة، وكارتونية".
العيون المغماة تتكرر في مشروع سيروان باران. وهو بذلك يقول إن فكرة الأسر ليست فقط في الحروب، بل في المجتمع، وإن أسرى الحروب يكونون في زمن عنيف مباشر، ولكن أشكال الأسر تمارس في المجتمع القبلي، والإذعان لسلطة الحزب الواحد، وغير ذلك.
منذ "آخر الجنرالات" المعرض الذي أقامه في الأردن، تركزت لوحات ومنحوتات باران على البشر المضيعين تحت حكم الجنرال، مضيفاً إلى ذلك استحضار حيوان الكلب، من ست ميثولوجيات بوصف هذا الكائن نقطة التقاء بين الحياة والموت.
كل المفردات التي تبدو سبباً لانطلاق هذا المشروع، أو سبباً لانطلاق النقاش حوله، لا تنساق إلى المجال السياسي المباشر الذي يؤخذ منه ويرد عليه.
أعماله الفنية التي تجوب العالم، تتلقى الصدمة ذاتها. هناك أشكال لا تعد من القتل والأسر والذل. ولو إنه مقدم بنوايا أخلاقية لما كفى. باران في نهاية المطاف فنان له أحلامه وكوابيسه بوصفه إنساناً منتمياً إلى وطن. إلا أن مغامرته الفنية لا تتوقف، وفي كل مرة يقدم مشهداً صادماً، ورفيعاً فنياً في آن.
يقول: "إنني أغامر فنياً، الركون إلى نمط أمر خطير بالنسبة لي. الحرفة مقدرة ولها جمالياتها، أما الفنان فليس حرفياً. إنه ينقلب على ذاته ويولد مرات عديدة".