بارك هوون جونغ ذهب إلى معالجة سينمائية مركّبة ومعمّقة لهوية بلاده في فيلمه "النمر: حكاية صيّاد عجوز"، إذ قدّم الصراع عليها في ثلاثة مستويات متصلة؛ التحصّن بثقافة تحرّض الكوريين على مقاومة المستعمر وتثبّت معنى الحياة والاستمرار فيهم، ليختار النمر رمزاً لهذه الثقافة بوصفه حارس الطبيعة والروح الطيبة في الأساطير الشعبية، وأخيراً سعى نحو تخليق نموذج مغاير للبطل الذي يؤمن أن وجوده يكتمل بانتصار المبدأ والحق لا بتفوّقه على الجميع.
هكذا يطرح المخرج والسيناريست الكوري رؤيته في مواجهة الاحتلال انطلاقاً من قصة الصيّاد العجوز مين سيك تشوي الذي يعترض على تعلّم ابنه الصغير الصيد، بعد تاريخ طويل ومرير مع الطبيعة وقوانينها، فقد قتَل زوجته بالخطأ ظنّاً منه أنها وحش كاسر، ودارت بينه وبين النمور جولات عديدة، تأسّست على عداء مستحكم مروراً بهدنة ألزمت الطرفين بعدم التعرّض لبعضهما، وصولاً إلى صداقة نادرة بين خصمين قوامها الحذر المتبادل، ومساعدة كلّ منهما لغريمه إذا استدعت الحاجة، من دون أن يغمض أحدهما عينه مطمئناً إلى خصمه بالمطلق.
علاقة معقّدة جمعت بين النمر وصيّاده، بعد أن اقتنع كلاهما بإمكانية العيش في ظل وجود الآخر، وهنا تغزو القوات اليابانية جارتها كوريا لتبدأ أكبر حملة إبادة للنمور، باعتبارها التجسيد الرمزي للروح الوطنية الكورية، وفي الأثناء يرتكب الغزاة جرائم دموية بحق البشر والشجر والحيوان.
لا يغفل الشريط تسليط الضوء على الانقسام المتعمّق بين الكوريين أنفسهم؛ جزء منهم يناصر الاستعمار رهبة منه أو طمعاً بهباته، ومنها ما أعلن عنه مقابل الفتك بالنمور التي لم يبق منها إلاً نمر أعور استطاع النجاة بعد قتله العديد من الجنود الذين أنهوا حياة آخر أبنائه، مقابل من يرفضون الانصياع لأوامر الحاكم الياباني ومنهم العجوز تشوي، الذي لم يستطع إقناع ابنه الوحيد بعدم الالتحاق بصائدي النمور ليلقى حتفه هناك عاجزاً عن أن يستوعب رؤية والده حول الصيّاد الذي يتماهى مع الطبيعة ولا يثأر منها.
في تلك المواجهات الدامية التي تخلّف ضحايا بالمئات، تهبّ عواصف ثلجية مدمرة على المكان، فلا يستطيع أحد الخروج من منزله سوى الصيّاد والنمر يبكيان فقدهما عائلتيهما، وكأن وحدتهما غدت تماثل كل هذه القسوة والبرودة والوحشة التي تحاصرهما بفعل غضب الطبيعة.
يبرع جونغ الذي كتب سيناريو أفلام "رأيت الشيطان" و"الظالم"، وكذلك نصوص أفلامه التي أخرجها، وهي: "المواجهة" و"عالم جديد"، في توظيف البعد الإنساني لشخصياته وتفاصيل معاناتهم وأحلامهم لتأخذ طابعاً ملحمياً يرتبط بمعانٍ فلسفية أكبر، وهو ما يصل إليه في فيلمه الجديد أيضاً، من خلال تكثيف الكاميرا وإبطاء مشاهدها لتعكس عمق المأساة، التي أحسّا بها فجأة عند انتهاء الألم الطويل بعد فراق أحبتهما، إلى تأمل وجودهما الذي لم يعد يعني لهما شيئاً.
يخرج مين سيك تشوي من بيته في ذلك اليوم ويتجه نحو أعلى الجبل ليواجه عدوّه للمرة الأخيرة في حوار صامت يخلص إلى وضع حدٍ لحياتهما، فيهجم النمر باتجاهه ثم يبتعد عنه مفضّلاً عدم قتله، وحينها يُخرج الصيّاد سكينه معلناً عزمه على الانتحار، لكن النمر يهجم عليه ثانية ويحضنه ليهويا سوية إلى أسفل الوادي.
بطلان تراجيديان على الطريقة الكورية، يرفض الأول الصيد مقابل المال أو خدمة الاستعمار، والثاني يتحدى كلّ أعدائه ولا يستسلم لهم حتى آخر لحظة، ولم يكن ليقتلهم لو أنهم آمنوا بحياتهم ومعناها بالأساس.