"تعليم التفكير الفلسفي": نظرة إلى الواقع العربي

16 اغسطس 2020
سلوى روضة شقير/ لبنان
+ الخط -

تتعدّد العوائق التي تواجه توطين الفلسفة كجزء أساسي من المنظومة التعليمية في المدارس والجامعات في العالم العربي، سواء المتعلّقة برفضها ضمن فئات اجتماعية عديدة بوصفها مبحثاً معادياً لموروثات متنوعة، إلى جانب إقصاء السلطة لها لما يمكن أن تقدّم من نقد لسياساتها المتعثرة في الواقع، وضعف يتصل بطبيعة المناهج المدّرسية وتأهيل كوادر المدرسين.

"تعليم التفكير الفلسفي والسياق الثقافي العربي: أي دور للمعطّلات الثقافية؟ مقدمات في الحداثات التطبيقية" عنوان الكتاب الذي صدر عن "سلسلة أطروحات الدكتوراه" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" للباحث التونسي محسن بن الحطاب التومي، منطلِقاً من معايشة لصيقة للشأن الفلسفي، تعلّمًا وتعليمًا وإشرافًا بيداغوجيًّا وبحثًا علميًّا، امتدّت ثلاثة عقود.

يعتمد المؤلّف مقاربة كيفيّة تخاصصية متداخلة المناهج، لينتهي إلى أنّ المشكلة ليست في الفلسفة ذاتها بقدر ما هي في السياق والوسائط. فالنصوص التأسيسية لهذه الثقافة العربية تنخرط بوضوح في تثمين العقل والنظر والتأمّل والاعتبار. لكنّ الممارسات التطبيقية تكشف عن خشية وتظنّن واحتراس في التعامل مع الفلسفة والتفلسف والفلاسفة، يعود بدوره إلى توتّر تاريخي في العلاقة بين العقل والنّقل، وبين الحكمة والشريعة، وبين الفلسفة والدّين.

في الفصل الأول، "إحداثيات نظرية"، يقدم التومي بحثه من جهة مبرراته وأهدافه ورهاناته، والدراسات السابقة والتعليق عليها، ثم يضبط الإشكالية وما يتفرع منها من أسئلة، ليقدم الفرضيات وزاوية النظر، وصولًا إلى بناء الإطارَين النظري والمفهومي.

يعتمد المؤلّف مقاربة كيفيّة تخاصصية متداخلة المناهج، لينتهي إلى أنّ المشكلة ليست في الفلسفة ذاتها بقدر ما هي في السياق والوسائط

تتلخص فرضيات هذا البحث في ما يأتي: لا تعود الصعوبات التي يعانيها درس الفلسفة في المعاهد الثانوية التونسية إلى أسباب مؤسساتية أو ديداكتيكية فحسب، بل كذلك إلى أسباب ثقافية؛ وتدريس الفلسفة في المعاهد الثانوية ذو علاقة بالسياق الثقافي العام؛ ويتأثر اتجاه التلميذ نحو مادة الفلسفة بالتصورات الاجتماعية السائدة حولها.

في الفصل الثاني، "إحداثيات منهجية"، يبني التومي الإحداثيات المنهجية لبحثه من خلال لحظتين، يتولى في الأولى تقديم أساس البحث وخلفيته الإبستيمولوجية مبينًا وجوهَ حاجة البحث وسبل استفادته من المقاربات الكيفية والتخاصصية المركبة والتفاعلية الرمزية وغيرها. أما في الثانية، فيتولى تقديم أدوات البحث المنهجية وتمشياته الإجرائية ووصف العينات. وينصبّ انشغال المؤلف على تبين منزلة تدريس الفلسفة في الثانوي، والنظر في ما إذا كان السياق الثقافي العام الذي تتموضع ضمنه يمثل عائقًا حقيقيًّا يحول دون تدريسها على الوجه المطلوب. 

يرصد التومي، في الفصل الثالث، "واقع تدريس الفلسفة بالمعاهد الثانوية التونسية - رصد وتشخيص"، واقع تدريس الفلسفة وتشخيصه في المعاهد الثانوية التونسية، سواء من جهة الخلفية التاريخية للمسألة أو من جهة حاضرها واقعًا وتمثُّلًا، ثم تحديد منزلتها بين البيداغوجي والثقافي.

غلاف الكتاب

يتتبع التومي، في الفصل الرابع، "صورة الفلسفة لدى التلاميذ واتجاهاتهم نحوها"، صورة تدريس الفلسفة من خلال التمثُّلات والاتجاهات السلبية تجاهها، وذلك بربطها بالسياق الثقافي، ثم ينظر بأي معنى يمكن أن تشكّل عوائق ثقافية. 

أما الفصل الخامس، "تأويل النتائج"، فيفصل فيه التومي تحليل مفهوم المعطّلات الثقافية، ويبين أهميته الإجرائية في فهم أزمة تدريس الفلسفة. وينظر في بنية العائق الثقافي ومكوناته، وفي جينيالوجيا نشأته وتكونه وآليات اشتغاله والعلاقات الجدلية بين مكوناته المعرفية والوجدانية، ثم يحاول شده إلى السياق الثقافي، لينتهي إلى محاولة بنائه مفهوميًّا. بعد ذلك، يبين أهمية الوعي بهذه العوائق سبيلًا إلى تطوير تدريس الفلسفة.

في الفصل السادس، والأخير، "خلاصة البحث وآفاقه"، يوصى المؤلف بتعميم البحث على مستوى أقطار عربية وأجنبية أخرى قصد المقارنة والنظر في المشترك والمختلف بينها، ومواصلة البحث في التمثُّلات الاجتماعية، والسعي إلى مزيد من الانخراط ضمن مقاربات منظومية، مندمجة ومسيِّقة التمثُّلات الاجتماعية ومواكبة لما توفره العلوم المعرفائية Cognitive Sciences من ممكنات وكشوفات جديدة على مستوى سبر أغوار الدماغ البشري، والاشتغال على المكونات الوجدانية للتمثُّلات الاجتماعية وللاتجاهات على نحو أكثر تفصيلًا، وتسليط الضوء على المعارف والنظريات والمعتقدات الضمنية الحاكمة في العقل وفي الثقافة العربية الإسلامية باعتباره عملًا تشريحيًّا ونقديًّا ضروريًّا لتجاوز معطّلات هذا العقل وتلك الثقافة، واختبار مدى إجرائية مفهوم المعطّلات الثقافية باستخدامه في تفسير جوانب أخرى من الظاهرة الإنسانية وفهمها بوجه عام، والظاهرة التربوية على وجه الخصوص.

يضيف المؤلف إلى توصياته الآتي: "إذا كان ربط تعليم الفلسفة بسياقها الثقافي قد كشف لنا هشاشة الظاهرة الإنسانية، بمعنى شدة تأثرها بالسياق، فإننا - من دون أن نَسقط في ضرب من الاسمية - يمكن أن نقول إنه ليس ثمة ظاهرة في ذاتها بقدر ما هناك السياق، وإن الفلسفة في حد ذاتها محض تجريد، لأن الفلسفة لا تكتسب معناها الحقيقي إلا من خلال خصوصية السياق الذي توجد ضمنه، وهو ما يؤكد ضرورة استبدال أسئلة التحديث المجردة بأخرى مسيقة، والانتقال من الحداثة كمبحث نظري إلى ضرب من الحداثات التطبيقية".

المساهمون