تفتتح الحلقة الأولى من الموسم الثالث والختامي للمسلسل الألماني "دارك" DARK، بعبارة قالها الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور: "يمكن للمرء أن يفعل ما يشاء، ولكنه لا يستطيع أن يريد ما يشاء".
نتيجة فلسفية استعان بها كتّاب العمل لتسويغ الفعل الدرامي المعقد في سيناريو المسلسل. فالعمل بني على دراسات ونظريات علمية ورياضية تخدم الغاية الأساسية المراد إيصالها في عملية بحث الإنسان الطويلة عن وسيلة تمكنه من السفر عبر الزمن.
هذه الفكرة التي تستبيح التعقيد، لا على مستوى الشغف الفني فحسب، بل على مستوى الدراسة والبحث والتجربة، قد صيغت لأجلها مئات النظريات والمحاولات والتجارب العملية والنظرية، بالاعتماد على أسس الفيزياء الحديثة، كالنظرية النسبية وميكانيكا الكم، وغيرها مما يتعلق بعلوم الكوزمولوجيا.
وإن خلص كبار الفيزيائيين، أمثال آينشتاين وستيفن هوكينغ، إلى استحالة تطبيقها عمليًا، إلا أنهم لم ينفوها نظريًا. ولعل هذه الخلاصة تكفي النشاط التجريبي للدأب إلى متابعة الطريق حتى يصل أحدهم إلى حل لغز السفر عبر الزمن، فما بالك عن النشاط السينمائي والتلفزيوني التي شكلت نظرية الانتقال بالزمن مادة دسمة له.
أعمال كثيرة تناولت هذه النظرية بالاستناد إلى رواية هاربرت جورج ويلز الشهيرة THE TIME MACHINE الصادرة عام 1895، التي ألهمت صناع السينما لاحقًا في إنتاج أفلام ومسلسلات حاولت المقاربة بين النزعة البشرية لسبر الغيبيات وتطلعاتها في العودة الى الماضي، ومحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه من أفعال ومواقف، أو الذهاب إلى المستقبل ومعرفة شكل الحياة هناك والاستفادة منها. إلا أن الأمر مختلف في "دارْك"، فكتّابه يرون أن عواقب وخيمة ستصيب البشرية في حال توصل العلم إلى حل لغز هذه النظرية.
تقع حادثة في مصنع الطاقة النووية في بلدة تدعى "ميندن"، فتسببت بإنتاج مادة مظلمة ذات طاقة هائلة، أحدثت شرخًا أو ممرًا يسمح بالانتقال عبر الزمن، بين أروقة الكهوف التي تقع أسفل المعمل، في فترة زمنية مدتها 33 عامًا نحو الماضي أو المستقبل. هذه الحادثة تشكل المحرك الأساسي في المسلسل، وهي في صميمها معادلة فيزيائية تنبأت بها النسبية العامة لآينشتاين، والتي تتيح إمكانية تشويه نسيج الزمن إلى درجة عالية، حيث ينثني على نفسه، ما يؤدي إلى حدوث حلقة زمنية. وإن تخيلنا السفر على طول هذه الحلقة؛ فهذا يعني أننا سننتهي في لحظة ما في الماضي، ونجد أنفسنا نعيد اللحظة نفسها مرارًا وتكرارًا من دون أن ندرك ذلك. كما أن إمكانية السفر تعتمد على التنقل بسرعة الضوء، وهو أمر يتطلب مقدارا غير محدود من الطاقة.
لهذا، نجد أن البعد الدرامي ينضوي خلف المشيئة المرهقة المستدامة التي تقع فيها شخصيات المسلسل في سعيها نحو فهم الوقائع الشائكة والمعقدة جدًا بين الأزمنة الثلاثة، فيشعر المتفرج بدوامة تجذبه إلى داخل شبكة عنكبوتية من الشخصيات المكررة في أزمنة مختلفة. فلكل شخصية أطوار عمرية عدة، تشتبك في ما بينها وبين باقي الشخصيات بعد اكتشاف الممر السري للزمن، أي أن كل بطل سيلتقي بنفسه بين هذه الأزمنة. يتوضح من خلال ذلك حجم التعقيدات والمسائل الشائكة التي ستحركها خيوط العمل المحكمة داخل هذه المتاهة التي سترتكز على شخصيتين رئيسيتين تشكلان المحاور الرئيسية للعمل، وهما مارثا ويوناس.
تبدأ الحكاية في الموسم الأول في عام 2019. ينتحر ميشيل والد يوناس بعد أن يترك للأخير رسالة سرية، ثم يلي ذلك اختفاء طفل يدعى ميغيل والذي سيكون العقدة الأولى في المسلسل. سيكتشف يوناس بوابة الزمن التي ستأخذه نحو الماضي 33 عامًا. هناك، سيجد يوناس ميغيل، ولكن شخصًا ما قادم من المستقبل (يوناس الأكبر) سيمنعه من محاولة إعادة ميغيل إلى أهله بعد أن يخبره أن والده ميشيل هو نفسه ميغيل شقيق مارثا حبيبته.
من هنا نفهم أن أي تحريك أو تغيير في الأحداث سيحدث خللًا في المصفوفة، بالاعتماد على "مفارقة الجد" الشهيرة التي وضعت في ثلاثينيات القرن التاسع عشر لنقض فرضية الرجوع بالزمن، والتي تقول "إن استطاع مسافر العودة إلى الماضي وقتل جده، سيجعل مولده أمرًا مستحيلًا وبالتالي يمنع عودته عبر الزمن في المقام الأول ويحول دون سفره".
في الموسم الثالث نكتشف أن هناك عالمًا ثانيًا موازيًا للعالم الطبيعي بأحداثه وظروفه، مع اختلاف في طبيعة العلاقات بين الشخصيات، وهو افتراض قائم على نظريتي "الأكوان المتعددة" التي نادى بها عالم الفيزياء الأميركي هيو ايفرت عام 1954، و"الأوتار الفائقة" التي طورّت على يد فيزيائيين أمثال جون شفارتز ومايكل غرين. الفرق بين النظريتين أن الأخيرة ترى بإمكانية هذه العوالم أو الأكوان الاتصال مع بعضها بعضًا. وعليه، يدخل المسلسل في تعقيد أشد من ذي قبل، بعد أن فتح متاهة ثانية ستدرك لاحقًا أنها كانت بغرض ربط الأحداث وتفسيرها وحل خيوطها في نهاية الأمر.
عند دخول جميع الشخصيات في هذه المتاهة، تصبح "مفارقة الجد" عديمة القيمة، بعد أن يصبح كل من "أيفا" (الطور الثالث من شخصية مارثا، وقائدة جماعة "ليكن هناك ضوء")، و"آدم" (الطور الثالث من شخصية يوناس، وقائد جماعة "هكذا خلق العالم")، المتحكمين بالمسارات الزمكانية للشخصيات، في سبيل فرض وجهة النظر الخاصة بكل منهما في عملية كسر سلسلة السبب والنتيجة.
بهذا، يرى آدم أن الخلاص من هذه المتاهة، يكمن في قتل المصدر، وهو عبارة عن الجنين الموجود في أحشاء مارثا، وهذا الجنين يكون ابن يوناس نفسه في زمان ومكان آخرين. بينما ترى إيفا، التي خططت لحصول هذه العلاقة بين يوناس ومارثا، من أجل الحفاظ على العقدة واستمرار دورة الحياة كما هي، أن لا خلاص من هذه العقدة، وعليه حرضت إيفا جميع اتباعها المؤمنين برؤيتها، على ترتيب الأحداث وتوظيفها بما يسمح لبقاء العقدة تجري كما هي عليه.
ورغم اختلاف وجهات النظر بينهما، إلا أنهما متفقان على مبدأ واحد، وهو أن البداية هي النهاية والنهاية هي البداية، وأن كل مصير مرتبط بالآخر في عملية تكرار لانهائية. هنا، نجد إشارة واضحة للبعد الديني القائم على مسلمات عقائدية في الإسلام والإنجيل حول قصة "آدم وحواء" وذريتهما على الأرض.
تقول نظرية النسبية الخاصة عند اينشتاين إن "الزمن يتوقف عندما تصبح سرعة الكتلة تساوي سرعة الضوء". وبذلك كانت هذه النظرية بمثابة المفتاح المناسب لحل العقد الدرامية في المسلسل، حيث نكتشف في الحلقات الأخيرة، وبواسطة شخصية مهمة في العمل تدعى كلوديا، أن عالم رياضيات وصانع ساعات يدعى إتش جي تانهاوز قد فقد ابنه وزوجة ابنه وحفيدته بحادث سير، في العالم الأصلي، فأقدم على صنع آلة للسفر عبر الزمن عام 1986، تمكنه من العودة بالزمن لمنع وقوع تلك الحادثة، إلا أن هذه الآلة قامت بشطر الزمن إلى عالمين، عالم مارثا وعالم يوناس، ولتدارك هذه الدوامات والمتاهات وجب على الأخيرين العودة إلى مكان الحادث ومنع حصوله من أساسه، وذلك عبر ثغرة زمنية اكتشفتها كلوديا بالصدفة حيث تنشأ مع توقف الزمن للحظات أثناء وقوع الانفجار في مصنع الطاقة النووية.