في كتابه "فكرة الثقافة"، يستتد الباحث والمفكر البريطاني تيري إيغلتون (1943)، إلى مجموعة واسعة من المصادر والنظريات والفروع المعرفية كي يستقصي الطرائق التي تُعَرَّف بها الثقافة وتُستخدَم في تأويل العالم المادي والتفاعل معه، وتلك الطرائق بعيدة المدى غالباً ما تكون متضاربة.
صدرت ترجمة الكتاب حديثاً عن سلسلة "ترجمان" ضمن منشورات "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ونقله إلى العربية المترجم ثائر ديب، حيث يأتي الكتاب الموثق والمفهرس في خمسة فصول.
يحمل الفصل الأول عنوان "الثقافة في طبعاتها المختلفة"، وفيه يبحث إيغلتون في أصول كلمة "ثقافة"، وفي دلالاتها وطبعاتها المختلفة، عارضاً المعاني المتعددة والمتمايزة، بل المتصارعة أحياناً، للثقافة في سياق الجدل الدائر بين المفكرين.
يقول المؤلف في هذا الصدد: "كانت فكرة الثقافة دائماً، بدءاً من أصولها اللغوية التي تشير إلى تولّي النمو الطبيعي بالرعاية وإلى الآن، طريقة لنبذ الوعي وتهميشه. فإذا كانت الثقافة باستخدامها الضيّق قد عنت أرقّ نتاجات التاريخ البشري المشغولة بوعيٍ وحساسية رفيعين، فإن معناها العريض أشار إلى عكس ذلك تماماً".
يُكمل: "الثقافة، بترجيعها، أصداء سيرورة عضوية وتطور جارٍ خلسةً، هي مفهوم أقرب إلى الحتمية، يشير إلى ما في الحياة الاجتماعية من خصائص هي التي تختارنا من دون أن نختارها، مثل العادة والقرابة واللغة والشعائر والأساطير".
وفي "الثقافة في أزمة"، وهو عنوان الفصل الثاني، يرى إيغلتون أننا عالقون في هذه اللحظة "بين تصوّرين للثقافة، أولهما واسع وفضفاض إلى درجة العجز، وثانيهما صارم وصلب إلى درجة الإزعاج، وأنّ ما نحتاج إليه أشدَّ الاحتياج في هذا المجال هو أن نتخطّى هذين التصوّرين كليهما. ولا سيما أنّ مفهوم الثقافة كان قد أبدى، بحسب مارغريت آرشر، أدنى درجات التطور من حيث قدرته التحليلية إذا ما قيس بأيّ من المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع، كما قام بأشدّ الأدوار تذبذباً ضمن النظرية الاجتماعية".
أما في الفصل الثالث، "حروب الثقافة"، فيذهب المؤلف إلى أنّ الدولة- الأمّة لا تحتفي بفكرة الثقافة دونما حدود، بل على العكس، "فإن أيّ ثقافة قومية أو إثنية محدّدة لا يمكن أن تحظى بالأهمية إلا عبر مبدأ الدولة الموحِّد، وليس بحكم قوتها الخاصة. فالثقافات ناقصة في جوهرها، وهي تحتاج إلى أن تُكملها الدولة كي تصير ذواتها الحقّة. وهذا هو السبب، بالنسبة إلى القومية الرومانسية على الأقلّ، في أنّ لكلّ إثنية حقّها في أن تقيم دولتها لمجرد أنّها شعب مميز، ذلك أنّ الدولة هي السبيل الرئيس الذي يمكن من خلاله أن يحقق هذا الشعب هويته الإثنية. بناءً عليه، فإنّ دولةً تضمّ أكثر من ثقافة واحدة سيتحتّم عليها أن تخفق في أن تعدل بين جميع هذه الثقافات".
يقول إيغلتون، في الفصل الرابع، "الثقافة والطبيعة"، إنّ النصر النهائي معقود للطبيعة على الثقافة، "وهو النصر الذي اعتدنا على تسميته الموت. ويكاد الموت، على المستوى الثقافي، أن يكون قابلاً لتأويلاتٍ لا حدَّ لها".
يؤكد المؤلف أنّ المذهب الذي يرى أنّ الطبيعة البشرية هي الثقافة يمكن أن يكون مذهباً محافظاً على الصعيد السياسي. فلو كانت الثقافة هي التي تشكّل طبيعتنا برمّتها، لما كان في تلك الطبيعة ما يدفع إلى الوقوف في وجه ثقافة ظالمة. وهذا ما يرتبط بتلك المشكلة التي واجهها ميشيل فوكو في تفسير الكيفية التي يمكن بها ما شكّلته القوة برمّته أن يقاوم هذه القوة. ولا شكّ في أنّ قدراً كبيراً من مقاومة الثقافات ثقافي هو ذاته، بمعنى أنّه ينبع برمته من مطالب ولّدتها الثقافة.
في الفصل الأخير، "نحو ثقافة مشتركة"، يتخذ إيغلتون مجالاً للبحث في مفهوم الثقافة المشتركة عند ت. س. إليوت، وريموند وليامز، ويختم بالقول: "ليست الثقافة ما نحيا به فحسب. فهي أيضاً، وإلى حدٍّ بعيد، ما نحيا لأجله. فالعاطفة، والعلاقة، والذاكرة، والقرابة، والمكان، والجماعة، والإشباع الانفعالي، والاستمتاع الفكري، والإحساس بالمعنى الجوهري، أقرب إلى معظمنا من شرعات حقوق الإنسان أو المعاهدات التجارية".
ويضيف: "لكن من الممكن للثقافة أيضاً أن تكون مخيفة ومرعبة. بل إنّ حميميتها ذاتها قد تغدو مرضاً ووسواساً ما لم توضع في سياق سياسي مستنير، سياق يمكن أن يلطّفَ هذه الأشياء العاجلة والملحّة بأشكالٍ من الانتماء أشدّ تجريداً، لكنها أيضاً أشدّ سخاءً وسماحة. ورأينا كيف اكتست الثقافة أهمية سياسية جديدة. لكنها غدت في الوقت ذاته أبعد عن التواضع وأدنى إلى الغطرسة. وحان الوقت، ونحن نعترف بأهميتها، كي نعيدها إلى مكانها المناسب".