إذا كانت خماسية "مدن الملح" لـ عبد الرحمن منيف علامة فارقة في الرواية العربية الحديثة، من خلال تبلور تقنياتها واتساع أفقها، فإنها - من ناحية أخرى - ظلّت بعيدةً إلى حدّ ما عن القراءة النقدية. عن "دار الجنوب" في تونس، صدر مؤخراً كتاب "مسار توليد الدلالة في مدن الملح" للباحث التونسي عبد الرزاق الحيدري مقدّماً قراءة موسّعة في العمل باعتماد المقاربة السيمائية بالأساس.
حول الاهتمام البحثي بـ"مدن الملح"، يقول المؤلّف في حديث إلى "العربي الجديد" إن اشتغاله على هذا العمل يعود إلى سبب رئيسي يتعلق بمفهوم الكتابة الروائية لدى منيف؛ فهي "لا تستهدف تحقيق المتعة والجمال لدى القارئ العربي فقط، بل هي التزام وبحث عن قيم جديدة ونقد لمعاناة الإنسان والوطن بإماطة اللثام عن الهموم والقضايا التي عايشها. ومن ثمّ تبدو أعماله محمّلةً بمشاغل العصر وقضاياه، خاصة بعد أن خاض تجربة سياسية انتهت به إلى الخيبة والمرارة والارتحال عبر المكان بحثاً عن الأمن والطمأنينة".
يتابع: "كانت الرواية لديه الفضاء الأرحب الذي صبَّ في منعطفاتها التخييلية همومَ جيل بأكمله، مجسداً بذلك صوتاً فضائحياً جهيراً. ولذلك اختزنت "مدن الملح" بأجزائها الخمسة مراحل من التاريخ العربي: تاريخ النفط والسلطات المستبدّة والهزائم المفتوحة وتشويه الأمكنة الحميمية وترحيل السكّان الأصليّين وتهميشهم وتواطؤ الحكّام العرب مع القوى الاستعمارية وغير ذلك".
يعتقد الحيدري أن كل ذلك "أضاف جماليات على النص"، مشيراً إلى أن هذا العمل يمكن اعتباره مؤسّساً لمفهوم الرواية البوليفينية التي تعير أهمية للشخصيات الروائية وتُفسح لها المجال للتعبير عن مشاغلها وهواجسها، متجاوزةً بذلك هيمنة الصوت الواحد.
يقول الكاتب التونسي: "من ثَمَّ يبدو منيف ديمقراطياً مع مخلوقاته الفنية، إذ أنه قاوم رواية السلطة بسلطة الرواية على حد تعبير الناقد الفلسطيني فيصل درّاج، ليزيح بذلك البساط من تحت أقدام المؤرّخين الذين زيّفوا التاريخ واهتموا بالملوك والسلاطين وأهملوا قراءة الأحداث من وجهة نظر الناس، متحدّياً التاريخ الرسمي. ومنه يمكن أن نقرأ تاريخ النفط ونشأة الدول والممالك في الجزيرة العربية من خلال "مدن الملح"، لأنها ترقى لأن تصبح وثيقة تاريخية، من دون أن تفقد بعدها التخييلي وانتماءها إلى جنس الرواية".
حول تعامله كباحث مع النص، يقول الحيدري: "قاربتُ الخماسية مقاربةً سيميائية لأني أردت أن أخرج من دائرة الدراسات التقليدية، على غرار البحث عن الأبعاد الحضارية والتاريخية والسياسية والاجتماعية في ثنايا الرواية. وبذلك ارتأيت استخدام منهج حديث يقوم على الدراسة المحايثة وتتبّع الحالات والتحولات التي قام عليها الخطاب الروائي في الخماسية، ومن ثَمّ تحليل الرواية من الداخل بحثاً عن المعنى باعتباره مدار النظرية السيميائية".
يعتبر الحيدري أن "جل الدراسات النقدية التي تناولت "مدن الملح" ظلّت مسكونة بمعطيات وأدوات خارجية؛ فأصحاب تلك المناهج اتخذوا منها إطاراً للاستدلال على قضايا من خارج النص والبرهنة على مشاغل خارجية ذات أبعاد تاريخية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو غيرها".
هنا، يشير المؤلّف إلى أن "مجال السيميائيات السردية العربية يظل شحيحاً رغم بعض البحوث القليلة والجادة"، مضيفاً: "دارس الأدب العربي بشكل عام يمكنه أن يغامر في مجال البحث ويسلك طريقاً قد تبدو وعرة من حيث ترجمة المصطلحات النقدية ونقلها من مظامينها الغربية إلى اللغة العربية وإجراء بحثه وفق مستويات متكاملة بغية تحليل نصوص روائية بحثاً عن المعنى في صلب الخطاب، وهذا ما سيبعده عن تكرار المناهج الكلاسيكية ويضفي على نتائج عمله سمات الموضوعية والدقة، فيُجنّبه بالتالي السقوط في الأحكام الذاتية والمواقف الانطباعية الانفعالية".
يعقّب قائلاً: "بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا البحث هو اختبار للطاقات التي توفّرها النظرية السيميائية من منظور مدرسة باريس التي تنشد تشييد الدلالة في كل ضروب الخطاب (الأدبي، الديني، التاريخي، السياسي، الإشهاري..)".
يعتمد كتاب الحيدري على جهاز مفهومي ثري، وهو ما يجعلنا نتساءل إن لم يكن ذلك عائقاً في تلقّي مثل هذه الدراسات الأدبية. يعتبر الحيدري أن الجمهور المستهدف من هكذا كتاب هو من المتخصّصين في الغالب، لكنه رغم ذلك يشير إلى وعيه بصعوبة المصطلحات النقدية المعتمدة وعسر توظيفها في النص الروائي العربي، خاصة إذا كان في حجم خماسية.