في تلك الليلة.. وعقب صلاة الفجر لم يكن لدي أدنى شك أن الساعة قد اقتربت وأن موعد الخيانة قد دنا منا وتدنى.. وأن أحداثاً ما سوف تجهد عدستي هذا اليوم..
ألصقت الكاميرا على كتفي، مرت دقائق الساعات والثواني حتى منتصف السادسة صباحاً ثقيلة مريبة متحفزة نحو شيء نعلمه ولا نراه..
لم أكن وحدي من يحمل الكاميرا.. كان هناك العديد يحملونها.. في تقاطع يوسف عباس مع طريق النصر وقفت أرقب من أي اتجاه سيأتي الغدر..
ها هم اقتربوا، فاقتربت عيناي معهم نحو الكاميرا، أرقب من بعيد تحركات غير مفهومة من عناصر مرتكبي المذبحة..
قمت بتغيير مكاني، مولياً وجهتي شطر شروق شمس.. أصبح أو بات غروباً باتجاه "طيبة مول".. كثافة الحريق السوداء طاولت السماء، وأخفت الشمس وسدت طريق أشعتها فظننا أنه المغيب..
ترصد الكاميرا قناصاً هنا.. طائرة هناك.. رصاصات تخترق البشر.. تتساقط الأجساد.. يئن المصاب.. تتطاير الدماء.. يصرخ الأطفال باستجداء.. يُكبر الرجال الأحياء.. وتصرخ النساء منهن على استحياء..
مرت ساعات أخرى وتوجهت نحو مشفى رابعة.. أركض صعوداً درجات المشفى ومع كل درجة، مصاب وشهيد وطفل وامرأة..
أدلف إلى ردهة واسعة.. أجد امرأة مسجاة على ظهرها غارقة في دمائها المنبثقة من أعلى رأسها.. أترك كل شيء حولي ولا أفعل سوى الطواف حول هذا الجسد لالتقاط بعض الصور.. لا أحد يتكلم.. الذين يسعفونها فقط، اثنان أو ثلاثة أشخاص، بأنين وحوقلة وتكبير..
أثناء انغماسي في تصوير تلك المرأة مدبراً درجات السلم الذي صعدت منه ظهري، أسمع صوت طفل من بعيد ينادي "ماما، فين ماما، فين ماما" تنامى الصوت علواً.. في البداية لم أعر الصوت أهمية ولم أربط بينه وبين تلك المرأة التي أصورها.. إلى أن التصق الصوت بظهري مباشرة..
التفتّ خلف ظهري تماماً فوجدته.. "رمضان"، أحد الرجال يهدّئ من روع الصغير.. كان يخدش وجهه بأظافر يديه بقوة محاولاً إيذاء نفسه.. وقف رجل بجواره مربتاً على كتفيه.. "اصبر يا حبيبي، لا لا ما تعملش كده، حرام يا حبيبي".. إلخ.
في تلك اللحظات تحولت بعدستي في لقطة واحدة من دون انقطاع من الأم نحو طفلها.. صرخ في وجهينا، أنا والعدسة.. "ماماااااا.. إصحي يا ماماااااا.. بالله عليكي إصحي يا مامااا".
تمالكت نفسي.. نسيت من أنا وماذا أفعل.. لم أتذكر مشاعري.. لم أمتلك قلبي وعقلي في تلك اللحظة واستمررت في تسجيل تلك اللحظة لثوانٍ معدودة.
كنت كالمجنون، لم أترك المكان.. لا لن أتركه، سأصور، سأسجل "فيديو وفوتو"، سأنظر، سأطوف، سأقف، سأغيّر مكاني. لا.. هذه الزاوية ليست مناسبة، سأذهب هناك، الطفل يصرخ، ليس مهماً، المهم الصورة، ركز، ركز، ركز، رائع، هنا، هناك، ممتاز.. تمت.
تركت المكان هبوطاً من حيث جئت، نظرت تحت قدمي كانت قد تخضبت بدماء "أم رمضان"..
خرجت في ضوء النهار الملبد بالغيوم ولا أدري.. ما الذي فعلته للتو.
ماذا فعلت.. من أنا..!!
فقدت كل المعاني والمشاعر والأحاسيس وكل ما يتعلق بالإنسانية..
كيف صورت هذا، هل كان حلماً..
كيف مر هذا الموقف من دون أدمُعٍ أو ارتجاف.. تذكرت شيئاً واحداً فعلته لهذا المسكين فقط.. عقب تصوير أمه.. وتصويره.. احتضنته.. وقلت له.. "معلش.. معلش يا رمضان"!!
(مصر)
ألصقت الكاميرا على كتفي، مرت دقائق الساعات والثواني حتى منتصف السادسة صباحاً ثقيلة مريبة متحفزة نحو شيء نعلمه ولا نراه..
لم أكن وحدي من يحمل الكاميرا.. كان هناك العديد يحملونها.. في تقاطع يوسف عباس مع طريق النصر وقفت أرقب من أي اتجاه سيأتي الغدر..
ها هم اقتربوا، فاقتربت عيناي معهم نحو الكاميرا، أرقب من بعيد تحركات غير مفهومة من عناصر مرتكبي المذبحة..
قمت بتغيير مكاني، مولياً وجهتي شطر شروق شمس.. أصبح أو بات غروباً باتجاه "طيبة مول".. كثافة الحريق السوداء طاولت السماء، وأخفت الشمس وسدت طريق أشعتها فظننا أنه المغيب..
ترصد الكاميرا قناصاً هنا.. طائرة هناك.. رصاصات تخترق البشر.. تتساقط الأجساد.. يئن المصاب.. تتطاير الدماء.. يصرخ الأطفال باستجداء.. يُكبر الرجال الأحياء.. وتصرخ النساء منهن على استحياء..
مرت ساعات أخرى وتوجهت نحو مشفى رابعة.. أركض صعوداً درجات المشفى ومع كل درجة، مصاب وشهيد وطفل وامرأة..
أدلف إلى ردهة واسعة.. أجد امرأة مسجاة على ظهرها غارقة في دمائها المنبثقة من أعلى رأسها.. أترك كل شيء حولي ولا أفعل سوى الطواف حول هذا الجسد لالتقاط بعض الصور.. لا أحد يتكلم.. الذين يسعفونها فقط، اثنان أو ثلاثة أشخاص، بأنين وحوقلة وتكبير..
أثناء انغماسي في تصوير تلك المرأة مدبراً درجات السلم الذي صعدت منه ظهري، أسمع صوت طفل من بعيد ينادي "ماما، فين ماما، فين ماما" تنامى الصوت علواً.. في البداية لم أعر الصوت أهمية ولم أربط بينه وبين تلك المرأة التي أصورها.. إلى أن التصق الصوت بظهري مباشرة..
التفتّ خلف ظهري تماماً فوجدته.. "رمضان"، أحد الرجال يهدّئ من روع الصغير.. كان يخدش وجهه بأظافر يديه بقوة محاولاً إيذاء نفسه.. وقف رجل بجواره مربتاً على كتفيه.. "اصبر يا حبيبي، لا لا ما تعملش كده، حرام يا حبيبي".. إلخ.
في تلك اللحظات تحولت بعدستي في لقطة واحدة من دون انقطاع من الأم نحو طفلها.. صرخ في وجهينا، أنا والعدسة.. "ماماااااا.. إصحي يا ماماااااا.. بالله عليكي إصحي يا مامااا".
تمالكت نفسي.. نسيت من أنا وماذا أفعل.. لم أتذكر مشاعري.. لم أمتلك قلبي وعقلي في تلك اللحظة واستمررت في تسجيل تلك اللحظة لثوانٍ معدودة.
كنت كالمجنون، لم أترك المكان.. لا لن أتركه، سأصور، سأسجل "فيديو وفوتو"، سأنظر، سأطوف، سأقف، سأغيّر مكاني. لا.. هذه الزاوية ليست مناسبة، سأذهب هناك، الطفل يصرخ، ليس مهماً، المهم الصورة، ركز، ركز، ركز، رائع، هنا، هناك، ممتاز.. تمت.
تركت المكان هبوطاً من حيث جئت، نظرت تحت قدمي كانت قد تخضبت بدماء "أم رمضان"..
خرجت في ضوء النهار الملبد بالغيوم ولا أدري.. ما الذي فعلته للتو.
ماذا فعلت.. من أنا..!!
فقدت كل المعاني والمشاعر والأحاسيس وكل ما يتعلق بالإنسانية..
كيف صورت هذا، هل كان حلماً..
كيف مر هذا الموقف من دون أدمُعٍ أو ارتجاف.. تذكرت شيئاً واحداً فعلته لهذا المسكين فقط.. عقب تصوير أمه.. وتصويره.. احتضنته.. وقلت له.. "معلش.. معلش يا رمضان"!!
(مصر)