"مما يفطر القلب الأكثر قسوة"
هذا هو عنوان البحث القصير الذي وقعه الكاتبان الفرنسيان، جيروم فيراري وأوليفر روهي، ويتناولان فيه أرشيف صورٍ لم تنشر سابقاً، التقطها غاستون شيرو في ليبيا، بداية القرن العشرين، خلال الحرب الإيطالية العثمانية، وهي حربٌ منسية، دمويةٌ وعنيفةٌ، على الرغم من قصر مدتها، دامت من 29 سبتمبر/ أيلول 1911، إلى 18 أكتوبر/ تشرين الثاني 1912، وكانت إحدى آخر حروب الفتوحات الاستعمارية، إلى جانب أنها كانت مقدّمةً للاضطرابات التي سيعرفها الشرق لاحقاً. استغلّت المملكة الإيطالية قتل ليبيين جنوداً إيطاليين والتشنيع بهم، لكي يقوم جيشها بأعمال انتقامية دموية وعشوائية، بحق المجتمع المدني (عجّز، نساء وأطفال)، تميزّت بوحشيةٍ كبيرةٍ، وبحجم لا يتناسب مع الفعل، إلى درجة أنها استدعت، دولياً، ردود فعل شاجبة ومستنكرة.
إلى جانب الصور، يضم أرشيف شيرو نحو 20 مقالة صحفية، ومجموعة من الرسائل التي تخصّ هذا الكاتب الحالم بالشرق، والذي تحوّل، بسبب تلك الظروف، إلى مصوّر صحفي لحساب صحيفة لوماتان الناطقة بالإيطالية، والتي كانت طبعاً منحازة إلى الجانب القوي.
ارتكز الكاتبان على نحو 15 صورة، ضمّها الكتاب من الريبورتاج المصوّر ذاك، والذي تشكّل صورُه إحدى "أقدم الصور التي تتناول نزاعاً مسلّحا في العالم العربي"، وقد تمّ التقاطها في مرحلة دقيقةٍ واستثنائيةٍ، عرفت بداية تطوّر تقنيات الإعلام والانتشار، وحيث بدأت طبيعة الحرب نفسها تتبدّل. إنه "نزاع استعماري متأخر، سيصبح أحد العناصر المحرّكة لآلية الحرب المعقدة التي أدت إلى اشتعال أوروبا عام 1914".
لا تُظهر الصور شيئاً من المعارك، أو من الأسباب التي أدّت إلى قتل الجنود الإيطاليين والتمثيل بجثثهم بوحشية، ولا من المناظر العنيفة لأجساد مدنيين معلقةٍ على الأعمدة، كما لو كانت للصوص وخارجين على القانون، عوقبوا بأن تم شنقهم عقاباً. حتى صور الجنود الإيطاليين تظهرهم في أوضاع ارتياح، أو خلال انشغالاتٍ اعتياديةٍ، ولا تري الصور أي جندي عثماني مثلاً. ولم تكن مهمة الكاتبيْن اللذيْن سبق لهما أن تناولا، في أعمالهما الفردية، موضوعة الحرب في البلدان العربية، أو في الشرق الأوسط، التعليق على تلك الصور ووصفها، أو تخيّل واقعها المركّب وتظهير قصص الأفراد الموجودين فيها وحيواتها، بل هما عمدا إلى تحليلها عبر الولوج إلى ما تخفيه أكثر مما تظهره، فتركّز همّهما على "الكشف عن الدلالات والإشارات التي تحويها، والتي ما زالت في الحاضر تبثّها في اتجاهنا".
ومما يشير إليه كاتبا "مما يفطر القلب الأكثر قسوة"، إضافة إلى الغياب المطلق للمتمرّدين عن ريبورتاجات تلك الحقبة، الطابع الجماعي للموتى الذين لا يتم إظهارهم أبداً أفراداً، وإنما مجموعات. "ما تخبرنا به كل تلك الإعدامات مجموعةً، هو شيء من عاديات الهيمنة الاستعمارية، روتينها، يومياتها، ثلة إجراءات، وعمليات صيانة، وحقن تذكير، لطالما احتاجها النظام الاستعماري، لكي يذوب في مادة اليوميّ". إلا أن الكاتبين لا يكتفيان بالتركيز على تلك الحرب فحسب، بل يوّسعان زاوية النظر، متناولين حروباً إمبريالية وديكتاتوريات أخرى، من بينها حرب الاستقلال في الجزائر، تشيلي أيام بينوشيه، الخمير الحمر في كمبوديا، التدخّل الأميركي في العراق، إلخ، وهو ما يبرز كيفية نظر الغرب المستعمر إلى الآخر، وكيفية تمثيله وتقديمه، ما يضفي على بحثهما مدىً معاصراً يُظهر أن الشعوب العربية لا تُرى في الغرب إلا من خلال العنف، أكانت هي سببه، أم متلقّيته.
ألا يُساهم من يقوم بتقديم الحرب بترويج فحشها بشكل ما؟
عند مغادرته ليبيا عام 1912، كتب شيرو، وقد بدا عليه التشوّش والاضطراب: "شاهدت طرابلس تموت، أجل تموت.. وقد حضرت وفاة طرابلس ربما". أما الكاتبان فيعلّقان على جملته بالقول: "ربما كان يتحسّر بأسلوبه، وقبل ليفي ستروس بكثير، كيف أننا، أنّى ذهبنا، لا نستطيع سوى مصادفة قذارتنا. لأن الأمر هو هكذا: أينما ذهبنا، ومنذ زمن، لا نصادف إلا قذاراتنا".