30 سبتمبر 2024
.. "نحن أيضاً"
نزلت آلافٌ من النساء الأميركيات إلى الشارع احتجاجا على تعيين القاضي المحافظ بريت كافانو على رأس المحكمة العليا، أعلى سلطة قضائية في البلاد، بعد أن اتهمته باحثة أكاديمية بالتحرّش الجنسي. في الأسبوع نفسه، كرمت جائزة نوبل للسلام ناشطة وطبيبا لنضالهما في وجه العنف الجنسي ضد النساء في أبشع أشكاله. في الوقت نفسه، تتساقط نساء عراقيات، الواحدة تلو الأخرى، في عمليات قتل منظمة بالمسدس الكاتم للصوت، لإسكات أصواتهن بداعي "الدفاع عن الشرف". نالت أمل فتحي الناشطة الحقوقية المصرية حكما بالسجن عامين لفضحها التحرّش الجنسي الذي بات من يوميات المرأة المصرية. لم يحرّك الفيديو الذي نشرته على صفحتها في "فيسبوك"، وتشكو فيه أنها باتت تشعر بالاختناق في بلدها، أي مشاعر تعاطف، بل حملة سخرية وتشفٍّ لما قامت به من "إساءة" لسمعة البلاد، حيث لا تحرّش جنسي في الشارع ضد النساء، ولا متحرّشون.
قـد يكون الاهتمام المتزايد بالاعتداءات الجنسية ضد النساء (والرجال أيضا) أحد النتائج الطبيعية لحملة "أنا أيضا" (مي تو) التي أطلقت زخما عالميا، شجع النساء حول العالم لكسر تابو فضح الاعتداءات الجنسية التي تعرّضن لها عبر تقديم شهادات شخصية عن تجاربهن. ساهمت الضجّة التي أحدثتها الحملة في كسر منطق العيب الذي لطالما حوّل الضحية إلى المسؤول الأول عن معاناتها، إلا أن أهمية الحملة في أنها سلطت الضوء على ما قد يكون أوسع انتشارا بكثير من عمليات الاعتداء الجنسي في أشكاله الأكثر بشاعة. إنها عمليات التحرّش التي باتت تعتبر طبيعية، لكونها من تقاليد الحياة اليومية لمعظم النساء، عليهن أن يتعايشن معه للقدرة على الاستمرار.
تعرّضت حملة "مي تو" لاتهامات بشن محاكمات إعلامية بعيدة عن القانون، بما ينتهك حق
المتهم بارتكاب تحرّش جنسي بمحاكمة عادلة قبل إدانته على شاشات التلفزة. اتهمت الحركة باستخدام آليات انتقامية من الرجال، بما يزيد تعقيد العلاقات بين الجنسين، ويعيق الرجال من ممارسة ذكورتهم الطبيعية في ملاحقة النساء أو مغازلتهن باعتبارها من تقاليد العلاقة بين الجنسين. اعتبرت الممثلة الفرنسية، كاترين دونوف، أن الحملة ستقود إلى تزمتٍ في العلاقات، مدافعة عن حق الرجال في المغازلة في بيانٍ وقعته مائة امرأة فرنسية. واعتبرت زميلتها بريجيت باردو أن الممثلات اللواتي تحدثن علنا عن تجاربهن في تعرّضهن لتحرش جنسي منافقات. وأخيرا، دافعت الممثلة البريطانية المخضرمة جودي دنش عن الممثل كيفن سبيسي، بعد إزالة مشاهد له من فيلم تم تصويره لاتهامه بتحرّشات جنسية: هل سنبحث في تاريخ كل رجل، ونعاقبه على كل فعلة قام بها في ماضيه؟
تنتمي هؤلاء النساء لزمن ليس بإمكاني وبنات جيلي أن نتحدّث عنه، كما لم يتسن لنا أن ننعم برومانسية العلاقات التي لم تكن تتوقف آنذاك عند باب العمل بين الزملاء والزميلات، وحيث النساء كن أيضا في موقع الصياد المبادر في البحث عن العلاقات في نطاق العمل وخارجه. ننتمي إلى عالم آخر أقلّ رومانسية بكثير مما عاشته هؤلاء. في قاعة التحرير الصحافية، حيث حاولت أن أجد مكانا لي في مستهل مسيرتي المهنية، كان الزميل "المسؤول" يستطيب أن يقبل
البطن المستديرة للزميلة الحامل التي كانت تتقبل "حسن المعاملة" على مضض، ولكن من دون اعتراض كبير. كان الزميل نفسه يحب أن يبدأ يومه بتقبيل أيدي الزميلات معترفا بتمتعه في تقبيل الأيادي، حيث تلتصق شفتيه بيد الزميلة لثوانٍ، وتصدر صوتا يسمع في القاعة عن بعد، قبل أن يختار أن ينهي قبلة الزمالة. هل حاولت إحدى الزميلات التذمر أو التشكي؟ لم يكن من العادة أن تشتكي صحافية من تقبيل زميل يدها أو أن يختار الأخير مثلا، من باب المصادفة أو العادة، أن يلمسها في معرض تبادل الحديث، أو في خضم مهمات العمل. ولعل الاعتراض سيقود إلى توصيف الشاكية بالمثيرة للمشكلات، وغير الودودة في تعاملها مع الزملاء. قد يصل الأمر إلى حد توصيفها كارهة للرجال. في أسوأ الحالات، قد يعتبر الزميل الودود أن الشاكية عرّضت سمعته للتشويه، فيقود الأمر إلى نزاعٍ قد يعرّضها لخسارة عملها. بالنسبة للصحافيات المخضرمات، كانت الشتائم البذيئة السبيل للاستخفاف بصلافة الزملاء الرجال، أو نوع من الشيفرة المتعارف عليها للتأكيد على أنهن ينتمين إلى بيئة هؤلاء الرجال نفسها، ولا يخشين مقارعتهم في مجالهم.
وضعت حملة "أنا أيضا" اليد على أشكال التحرّش الأكثر شيوعا، ولعلها الأكثر إيلاما لاضطرار شريحة كبيرة من النساء للتعايش مع أشكال مموّهة من التحرّش لضمان الاستمرارية أو النجاح المهنيين. سلطت الحملة الضوء على أحد أهم الحقوق البشرية، وهو حق الأمان في بيئة العمل. ليس ذلك حملة حقوقية نسوية، بل مسألة حقوقية بحتة. لا يسقط الاعتداء الجنسي بالتقادم، أقله بالنسبة للضحية، كما لا يخفف من وطأته إقبال نسبةٍ من النساء على اعتبار أنوثتهن وسيلة للترقي الوظيفي. ليس مجال العمل المكان المناسب للمغازلة، وليس في أشكال التحرّش المموّه، مثل اللمس "غير المقصود" أو "الحسن النية" أي رومانسية. عن أي زمنٍ تتحدّث نساء ما قبل حملة "مي تو"؟ أنا وغيري كثيرات لم نكن هناك.
قـد يكون الاهتمام المتزايد بالاعتداءات الجنسية ضد النساء (والرجال أيضا) أحد النتائج الطبيعية لحملة "أنا أيضا" (مي تو) التي أطلقت زخما عالميا، شجع النساء حول العالم لكسر تابو فضح الاعتداءات الجنسية التي تعرّضن لها عبر تقديم شهادات شخصية عن تجاربهن. ساهمت الضجّة التي أحدثتها الحملة في كسر منطق العيب الذي لطالما حوّل الضحية إلى المسؤول الأول عن معاناتها، إلا أن أهمية الحملة في أنها سلطت الضوء على ما قد يكون أوسع انتشارا بكثير من عمليات الاعتداء الجنسي في أشكاله الأكثر بشاعة. إنها عمليات التحرّش التي باتت تعتبر طبيعية، لكونها من تقاليد الحياة اليومية لمعظم النساء، عليهن أن يتعايشن معه للقدرة على الاستمرار.
تعرّضت حملة "مي تو" لاتهامات بشن محاكمات إعلامية بعيدة عن القانون، بما ينتهك حق
تنتمي هؤلاء النساء لزمن ليس بإمكاني وبنات جيلي أن نتحدّث عنه، كما لم يتسن لنا أن ننعم برومانسية العلاقات التي لم تكن تتوقف آنذاك عند باب العمل بين الزملاء والزميلات، وحيث النساء كن أيضا في موقع الصياد المبادر في البحث عن العلاقات في نطاق العمل وخارجه. ننتمي إلى عالم آخر أقلّ رومانسية بكثير مما عاشته هؤلاء. في قاعة التحرير الصحافية، حيث حاولت أن أجد مكانا لي في مستهل مسيرتي المهنية، كان الزميل "المسؤول" يستطيب أن يقبل
وضعت حملة "أنا أيضا" اليد على أشكال التحرّش الأكثر شيوعا، ولعلها الأكثر إيلاما لاضطرار شريحة كبيرة من النساء للتعايش مع أشكال مموّهة من التحرّش لضمان الاستمرارية أو النجاح المهنيين. سلطت الحملة الضوء على أحد أهم الحقوق البشرية، وهو حق الأمان في بيئة العمل. ليس ذلك حملة حقوقية نسوية، بل مسألة حقوقية بحتة. لا يسقط الاعتداء الجنسي بالتقادم، أقله بالنسبة للضحية، كما لا يخفف من وطأته إقبال نسبةٍ من النساء على اعتبار أنوثتهن وسيلة للترقي الوظيفي. ليس مجال العمل المكان المناسب للمغازلة، وليس في أشكال التحرّش المموّه، مثل اللمس "غير المقصود" أو "الحسن النية" أي رومانسية. عن أي زمنٍ تتحدّث نساء ما قبل حملة "مي تو"؟ أنا وغيري كثيرات لم نكن هناك.