لم تحظ الفترة التي تفصل بين تعطيل الدولة العثمانية الدستور عام 1888، بعد أقل من عامين من إقراره، وبين انهيارها عام 1923، بتوثيق دقيق وشامل للأحداث التي عاشتها المنطقة العربية، ناهيك عن هيمنة الرأي على معظم الكتابات التي تناولتها، بالتأييد أو المعارضة.
في هذا السياق، صدرت حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الطبعة الثانية من كتاب "وثائق المؤتمر العربي الأول 1913: كتاب المؤتمر والمراسلات الدبلوماسية الفرنسية المتعلقة به"، وهو دراسة أجراها وقدّم لها المؤرّخ والباحث اللبناني وجيه كوثراني.
يقدّم الكتاب محاولة لتفسير سياق هذا الحدث وتقاطعات الفاعلين فيه واختلاف مواقع رهاناتهم وفهمها، علماً أن الفاعلين فيه لم يكونوا المشاركين العرب وحدهم ولا خطاباتهم وحدها، وإنما أيضاً سياسات دولية فاعلة تمثّلت في أشكال من الاستثمار والتوظيف والتدخل والرهانات المتعددة، فكانت محاولة التقاطٍ وجمعٍ لأبعاد وتركيبٍ لتقاطعات عروبية - عثمانية - دولية.
يطرح المؤلّف في مقدمته للطبعة الجديدة سؤالين تولّدا من "ذاكرة جديدة"، كما يقول، راكمت أربعين عاماً من صورٍ وأفكارٍ وأمكنة وحوادث وثورات، كان من شأنها أن توجب إعادة النظر في المواقف والرؤى.
ينطلق السؤال الأول من تناقض رأيَي عبد الحميد الزهراوي، المنسّق الأساسي للمؤتمر، الذي ذهب مذهب الرهان على أوروبا ورجالها المتنورين، وشكيب أرسلان الذي قال: "إن الأوروبيين مهما اجتهدنا ومهما حاولنا التظاهر بالقومية لا يعرفون المسلمين إلا أمة واحدة، إذا سقط بعضهم رأيت الأوروبيين يحتقرون الجميع". والسؤال هو: ما مدى التغير في ثنائية هذا التفكير العربي الذي أمسى نمطاً من حرب أهلية عربية اليوم تشتعل بين علمانوية طائفية وإسلاموية طائفية أيضاً؟
أما السؤال الثاني فهو: هل تغير شيء في علاقة القوى الأجنبية العالمية النافذة بالداخل العربي، أي بقضاياه ومسائله ومشكلاته وسياساته واقتصادياته وأديانه ومذاهبه، بل بمؤتمراته العربية التي يصعب تعدادها لكثرتها بعد "الأول"، عما كان عليه الحال في العلاقة الوظائفية بين الفاعلين في المؤتمر العربي الأول في مطالع القرن العشرين والفاعل الأوروبي؟
في القسم الأول "الدولة العثمانية وظروف نشأة الحركة العربية"، مباحث ثلاثة. في الأول، "مدخل إسلامي لدراسة الدولة العثمانية"، يرى كوثراني أنّ الأطروحات الأيديولوجية التي صيغت كمسلّمات لدى بعض الكتّاب الذين يعتبرون الحركات المحلية المناوئة للولاة العثمانيين أو بعض الدعوات الانفصالية عن الدولة العثمانية دعوات وحركات قومية، ساهمت في تشويه النظرة لا إلى التاريخ العثماني فحسب، حيث أبرز الأتراك فاتحين ومستعمرين، بل في تشويه النظرة إلى التاريخ العربي والإسلامي (الوسيط)، حيث حرص على إبراز العرب شعباً غالباً، واعتبر ازدهار الحضارة العربية مشروطاً بغلبتهم.
يقول المؤلّف في المبحث الثاني، "حركات الوحدة والتجزئة: الصراع على السلطة والنزاعات القومية"، إن تاريخ الصراعات السياسية المحلية في المشرق العربي هو إلى حد بعيد "تاريخ صراع العصبيات المحلية لفرض سلطتها كأمر واقع يعترف به السلطان فيصبح شرعياً.
في المبحث الثالث "الظروف الدولية لبروز الحركة العربية وبرامج الإصلاحات اللامركزية في عامي 1912 - 1913"، يقول كوثراني إن صعود الاتجاه الطوراني التركي والانهيار شبه الكامل للدولة أمام الهجمة الاستعمارية الأوروبية في عامَي 1911 و1912، كانا يقفان سداً في وجه الحركة المطلبية العربية لدى الأعيان والتجّار ومثقفيهم، ويدفعانها إلى التوجه نحو بدائل غربية تمثّلت آنذاك في مشروعين كبيرين: أحدهما فرنسي يقضي بجعل سورية الكبرى منطقة نفوذ فرنسي؛ والآخر إنكليزي أكبر طموحاً يقضي بإنشاء مملكة عربية، أو إحياء فكرة الخلافة العربية انطلاقاً من خديوية مصر أو أشراف مكة.
في القسم الثاني من الكتاب، يورد كوثراني بعض المراسلات الدبلوماسية الفرنسية حول المؤتمر وأوضاع سورية عام 1913، مع ذكر لمراجع دراسته والمراسلات في نهايته.
أما القسم الثالث، "وثائق المؤتمر العربي الأول 1913"، ففيه كتاب المؤتمر الصادر عن اللجنة العليا لحزب اللامركزية بمصر في عام 1913. كما يضم أسماء الوفود المشاركة في المؤتمر، ومحاضر جلسات المؤتمر الأربع المنعقدة في الفترة 18-23 حزيران/ يونيو 1913، وتشمل ما أُلقي فيها من خطب، وما تُلي فيها من رسائل بعث بها العرب من كل أنحاء العالم إلى المؤتمر دعماً وتهليلاً.