31 أكتوبر 2024
أبعد من الاستفتاء الكولومبي
بعد مفاوضاتٍ شاقة، استمرت أربع سنوات في العاصمة الكوبية، توصلت الحكومة الكولومبية وحركة فارك اليسارية المتطرّفة إلى اتفاق سلام ينهي حرباً بينهما، استمرت خمسة عقود، وخلفت عشرات آلاف القتلى والمفقودين والمهجّرين. وتختزل هذه الحرب، إلى حد كبير، خلفيات الصراع الاجتماعي والسياسي في معظم بلدان أميركا اللاتينية، فعلى الرغم من التحول الديمقراطي الذي عرفته معظم هذه البلدان، بعد عقود من الدكتاتوريات العسكرية، ووصول اليسار إلى السلطة في بعضها، إلا أن ذلك لم يُفض إلى إعادة توزيع الأرض والثروة، بسبب قوة اليمين وسيطرته على القطاعات الاقتصادية الحيوية.
نصّ الاتفاق الذي وقعه الرئيس خوان مانويل سانتوس وزعيم "فارك" طِموليون خيمينيث على تخلي الحركة عن حمل السلاح، والوقف الشامل لكل أعمال العنف، وإعلان الحكومة عفوا عاما عن المتمرّدين، والعمل على دمجهم في النسيج الاجتماعي والسياسي، وإنشاء محاكم للنظر فيما ارتُكب من جرائم في سنوات الحرب، وإنجاز إصلاحٍ زراعي كبير، فضلا عن قضايا أخرى تخصّ الحقيقة والذاكرة وإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسسٍ مغايرة. وعلى الرغم من أن الرئيس سانتوس لم يكن ملزماً، من الناحية القانونية، بعرض نصَ الاتفاق على الاستفتاء، إلا أنه فضّل عرضه على الكولومبيين، لحشد الدعم الشعبي لهذه الخطوة التاريخية. وفعلاً، أُجري الاستفتاء في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، لكن المفاجأة كانت رفض نصف الكولومبيين له بنسبة 21, 50%، ما وضع طرفي الاتفاق في مأزق حقيقي، وأعاد كل شيء إلى مربع الصفر تقريبا.
مثلت نتيجة الاستفتاء انتصاراً سياسياً دالاً لقوى اليمين من بورجوازية زراعية متنفذة،
وجماعات دينية، ورجال أعمال متحكّمين في أبرز القطاعات الاقتصادية ذات الصلة بالحرب، هذا من دون إغفال الدور المحوري الذي لعبه الرئيس السابق وزعيم حزب الوسط الديمقراطي ،ألفارو أوريبي، في إقناع فئاتٍ واسعةٍ بالتصويت ضد الاتفاق، على اعتبار أنه لا يمكن التفاوض أو الحوار مع تنظيم إرهابي، كان وراء مقتل عشرات آلاف من الكولومبيين. ولذلك، لا حلَّ أمام مسلحي ''فارك''، حسب المعسكر الرافض للاتفاق، إلا الاستسلام وانتظار كلمة القضاء فيما ارتكبوه من جرائم في حق الشعب.
هذا نصف الكاس الملآن، أما النصف الآخر فيحتاج إلى فهم أعمق لجدليات الصراع الكبرى التي تحكم مجتمعات أميركا اللاتينية، ليس أقلها أهمية إعادة الاصطفاف التي تشهدها، بعد أن وصلت ''الدورة التقدمية'' إلى سقفها، مع الأزمة التي باتت تتخبط فيها معظم الأنظمة اليسارية، خصوصاً بعد الانقلاب البرلماني المشبوه الذي نفذه اليمين البرازيلي على الرئيسة ديلمـا روسيف قبل حوالي شهرين. وعلى الرغم مما أنجزته هذه الأنظمة فيما له شأن بتحسين ظروف عيش فئاتٍ واسعةٍ من الطبقات الوسطى والفقيرة، إلا أن هامش مناورتها بدأ يتقلص مع تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، وارتفاع نسبة البطالة، وتراجع أسعار النفط، وارتباطات قوى اليمين المحلي بدوائر الرأسمالية الجديدة في الولايات المتحدة. وضعٌ صبَّ في مصلحة هذه القوى، وساعدها على تحقيق اختراقاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ عميقةٍ داخل مجتمعاتها، من خلال توظيف محكم ومدروس للمؤسسات والقانون وقواعد اللعبة الديمقراطية، ولنا في الحالة البرازيلية خير مثال على ذلك.
ضمن هذا السياق، يتجاوز تصويت نصف الكولومبيين ضد اتفاق السلام مع ''فارك'' كونه استقطاباً مجتمعياً حاداً يخصهم فقط. هناك إعادة اصطفاف اجتماعي وسياسي في منطقةٍ، لطالما اعتبرتها الولايات المتحدة، ولا تزال، ضمن مناطق نفوذها الحيوي، فقوى اليمين في أميركا
اللاتينية لا تعبر فقط عن مصالحها، بل هي بمثابة الواجهة الحيوية والفاعلة للرأسمالية الجديدة، ممثلةً، بشكل أساسي، في الشركات الكبرى متعدّدة الجنسيات، خصوصاً التي تنشط في قطاع التكنولوجيا الحيوية الزراعية، وفي مقدمتها الشركة الأميركية "مونسانتـو''. وتبدو هذه الشركة العملاقة، حسب كثيرين، في قلب معادلة اتفاق السلام الكولومبي، إذ من المؤكد أن مصالحها ستتعرّض لضربةٍ موجعةٍ في حالة نجاح هذا الاتفاق الذي سيفتح المجال أمام إصلاح زراعي كبير، يعيد النظر في ''مشكلة الأرض'' بكل امتداداتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي المشكلة التي تتوارثها بلدان أميركا اللاتينية ومجتمعاتها، منذ وصول الغزاة الأوائل الذين سيطروا على معظم الأراضي، وورَّثوها أعقابهم على امتداد القرون الخمسة الأخيرة.
من هنا، تعكس نتيجة الاستفتاء رغبة اليمين الكولومبي في قطع الطريق أمام الرئيس سانتوس، حتى لا يتمكّن من إكمال اتفاق السلام الذي سيخوله، بالطبع، مورداً سياسياً ورمزياً إضافياً يدخل به معتركَ الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في عام 2018، إذ إن النتيجة تعني، حسب هذا اليمين، أن الحكومة الحالية لا تمثل الأغلبية، وتفتقد، بالتالي، الشرعيةَ الديمقراطية لمواصلة التفاوض مع المتمرّدين. لذلك، المعسكر الآخر (اليمين) هو الذي يمتلك هذه ''الشرعية''، والأقدرُ على تدبير ملف السلام، انطلاقا من طرح شروطه التعجيزية على ''فارك''؛ شروط سترفضها الأخيرة، وتضطر معها للعودة إلى حمل السلاح، الأمر الذي يصبّ في مصلحة هذا اليمين والقوى الخارجية المستفيدة من استمرار الحرب.
قد لا تكون نتيجة الاستفتاء الكولومبي إلا حلقةً ضمن مسلسل إعادة بناء الخريطة السياسية في دول أميركا اللاتينية، وضخ دماء جديدة في تحالف الشركات الأميركية الكبرى وقوى اليمين المحلية، بما يعزّز الهيمنة الأميركية على اقتصاديات هذه الدول ومقدّراتها.
نصّ الاتفاق الذي وقعه الرئيس خوان مانويل سانتوس وزعيم "فارك" طِموليون خيمينيث على تخلي الحركة عن حمل السلاح، والوقف الشامل لكل أعمال العنف، وإعلان الحكومة عفوا عاما عن المتمرّدين، والعمل على دمجهم في النسيج الاجتماعي والسياسي، وإنشاء محاكم للنظر فيما ارتُكب من جرائم في سنوات الحرب، وإنجاز إصلاحٍ زراعي كبير، فضلا عن قضايا أخرى تخصّ الحقيقة والذاكرة وإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسسٍ مغايرة. وعلى الرغم من أن الرئيس سانتوس لم يكن ملزماً، من الناحية القانونية، بعرض نصَ الاتفاق على الاستفتاء، إلا أنه فضّل عرضه على الكولومبيين، لحشد الدعم الشعبي لهذه الخطوة التاريخية. وفعلاً، أُجري الاستفتاء في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، لكن المفاجأة كانت رفض نصف الكولومبيين له بنسبة 21, 50%، ما وضع طرفي الاتفاق في مأزق حقيقي، وأعاد كل شيء إلى مربع الصفر تقريبا.
مثلت نتيجة الاستفتاء انتصاراً سياسياً دالاً لقوى اليمين من بورجوازية زراعية متنفذة،
هذا نصف الكاس الملآن، أما النصف الآخر فيحتاج إلى فهم أعمق لجدليات الصراع الكبرى التي تحكم مجتمعات أميركا اللاتينية، ليس أقلها أهمية إعادة الاصطفاف التي تشهدها، بعد أن وصلت ''الدورة التقدمية'' إلى سقفها، مع الأزمة التي باتت تتخبط فيها معظم الأنظمة اليسارية، خصوصاً بعد الانقلاب البرلماني المشبوه الذي نفذه اليمين البرازيلي على الرئيسة ديلمـا روسيف قبل حوالي شهرين. وعلى الرغم مما أنجزته هذه الأنظمة فيما له شأن بتحسين ظروف عيش فئاتٍ واسعةٍ من الطبقات الوسطى والفقيرة، إلا أن هامش مناورتها بدأ يتقلص مع تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، وارتفاع نسبة البطالة، وتراجع أسعار النفط، وارتباطات قوى اليمين المحلي بدوائر الرأسمالية الجديدة في الولايات المتحدة. وضعٌ صبَّ في مصلحة هذه القوى، وساعدها على تحقيق اختراقاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ عميقةٍ داخل مجتمعاتها، من خلال توظيف محكم ومدروس للمؤسسات والقانون وقواعد اللعبة الديمقراطية، ولنا في الحالة البرازيلية خير مثال على ذلك.
ضمن هذا السياق، يتجاوز تصويت نصف الكولومبيين ضد اتفاق السلام مع ''فارك'' كونه استقطاباً مجتمعياً حاداً يخصهم فقط. هناك إعادة اصطفاف اجتماعي وسياسي في منطقةٍ، لطالما اعتبرتها الولايات المتحدة، ولا تزال، ضمن مناطق نفوذها الحيوي، فقوى اليمين في أميركا
من هنا، تعكس نتيجة الاستفتاء رغبة اليمين الكولومبي في قطع الطريق أمام الرئيس سانتوس، حتى لا يتمكّن من إكمال اتفاق السلام الذي سيخوله، بالطبع، مورداً سياسياً ورمزياً إضافياً يدخل به معتركَ الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في عام 2018، إذ إن النتيجة تعني، حسب هذا اليمين، أن الحكومة الحالية لا تمثل الأغلبية، وتفتقد، بالتالي، الشرعيةَ الديمقراطية لمواصلة التفاوض مع المتمرّدين. لذلك، المعسكر الآخر (اليمين) هو الذي يمتلك هذه ''الشرعية''، والأقدرُ على تدبير ملف السلام، انطلاقا من طرح شروطه التعجيزية على ''فارك''؛ شروط سترفضها الأخيرة، وتضطر معها للعودة إلى حمل السلاح، الأمر الذي يصبّ في مصلحة هذا اليمين والقوى الخارجية المستفيدة من استمرار الحرب.
قد لا تكون نتيجة الاستفتاء الكولومبي إلا حلقةً ضمن مسلسل إعادة بناء الخريطة السياسية في دول أميركا اللاتينية، وضخ دماء جديدة في تحالف الشركات الأميركية الكبرى وقوى اليمين المحلية، بما يعزّز الهيمنة الأميركية على اقتصاديات هذه الدول ومقدّراتها.