أخلاق ألمانيا وجرائم داعش

03 يناير 2017
+ الخط -
جاءت إلى قسم الطوارئ في مستشفى St.Bonifatius، في مدينة Lingen الألمانية، وهي تقع على الحدود الألمانية الهولندية، جاءت امرأة محجبة، ومعها رجل ملتح، ومعهما طفلة تبكي من ألم في رجلها.
الأم وزوجها لاجئان، وصلوا منذ فترة قليلة إلى ألمانيا كما يبدو، وكانت الحيرة والخوف باديين عليهما بوضوح، فطفلتهم تبكي، وهم على الأغلب لا يتكلمون الألمانية، ولا يعرفون الإجراءات، وما فاقم المشكلة أنّهم لا يتكلمون الإنجليزية أيضا.
أدخل طاقم الإسعاف الطفلة إلى غرفة الفحص، وتمّ فتح اتصال "سكايب" مع شركة ترجمة متخصّصة، حيث ظهر مترجم على الشاشة وأخذ المعلومات من الأهل وترجمها فوراً لطاقم الإسعاف، فتمّ علاج الفتاة وخرجت العائلة من المستشفى.
لو رأيت الفرق في تعابير وجه الأب والأم الحزينة والحائرة لحظة دخولهم إلى المستشفى، ومقارنتها بتعابير وجوههم الباسمة والضاحكة عند خروجهم منها، لعرفت لماذا ألمانيا بلد عظيم.
من نافلة القول إنّه منذ دخول اللاجئين ألمانيا، تعاقدت مستشفياتٌ كثيرة مع مكاتب ترجمة على مدار الساعة لمساعدة المرضى غير الناطقين بالألمانية، ليس ذلك فحسب، بل عرّبت المستشفيات بعض من نشراتها، مثل قوائم الطعام، وبعض المصطلحات الألمانية المتعلقة بالعلاج. ولا يخلو أي مستشفى ألماني من عبارات ترحيبية مكتوبة بالعربية.
طرحت المدارس أيضاً الأكل الحلال، كأحد الخيارات التي يمكن للطلبة اللاجئين تناولها مع زملائهم الألمان.
والبلديات لا تخلو من نشرات بالعربية لحقوق اللاجئ. قرأت نشرة حكومية مكتوبة بالعربية للاجئين، تؤكد لهم على حقوقهم، وأهمها حق الحصول على الاحترام من الموظف الذي يراجعون لديه، وإذا لم يشعروا بالارتياح للتعامل معه، هناك جهة يمكنهم الاتصال بها!
وفرت ألمانيا ذلك كله لما يقرب من مليون لاجئ هربوا من ويلات الشرق الأوسط، أعطتهم حقوقاً وحماية وتعليماً وطبابة، وتعاطف الشعب الألماني مع مأساة اللاجئين إلى درجة أنّ نسبة كبيرة من الناس استقبلت اللاجئين على الحدود.
تبرع مواطن ألماني بمنزله للاجئين، وخصّص جزءاً من وقته اليومي لتعليمهم اللغة الألمانية، وأجرت صحيفة Bild الألمانية واسعة الانتشار لقاء معه، وسألته عن سبب سخائه هذا، فقال إنه يعيش وحيداً، ويمكن له السكن في منزل صديقته بينما تلك العائلات أشد حاجة لمنزل يأويها.
قدّر جزء كبير من اللاجئين هذا الجميل الألماني، ومنهم من بدأ فعلاً في ردّ الجميل لألمانيا من خلال التزامه بالقوانين وإصراره على النجاح في هذا البلد العظيم.
ما يحز بالنفس فعلاً أن تقرأ تعليقات عربية في مواقع التواصل الاجتماعي تكشف قبح كثيرين من أبناء جلدتنا، حيث يقول بعضهم إنّ ألمانيا استقبلت هؤلاء اللاجئين لأنها تحتاج إلى عمّال! لو أنزلت السفارات الألمانية في دول العالم الثالث إعلاناً صغيراً في الصحف اليومية عن حاجتها لعمال ومهرة ومهندسين وأطباء، لوجدت الطوابير فوق الطوابير، ولدفع الناس أموالا للسفارات، ليذهبوا الى ألمانيا ويعملوا فيها. وكانت الطوابير أمام السفارات الألمانية قبل الربيع العربي، وهذه حقيقة لا يجادل بها اثنان.
الأنكى أنّ السفارات قادرة على فرض رسوم على هؤلاء المراجعين، وقادرة على فرض ضريبة هجرة تكون مصدر دخل لتلك السفارات، لكن ألمانيا (لو صح أنّها تريد عمّالاً كما يردّد بعضهم، غامرت بذلك كله، لتفتح حدودها لاستقبال حشود لا تعرف عنهم شيئاً، ومضطرة لأن تدفع ملايين الدولارات لاستقبالهم وتدريبهم وتأهيلهم وتأمينهم)، ومع ذلك، تجد بعض من أبناء جلدتنا يخفّفون من الجميل الألماني تجاه لاجئين مكلومين، هربوا من نير الظلم في بلادهم. وهذه أزمة أخلاقية كبيرة تعيشها شريحة واسعة من أبناء جلدتنا، يجب فعلاً معالجتها دينياً وأخلاقياً وإنسانياً.
أما "داعش" وجرائمها في ألمانيا، وجديدها جريمة استهداف سوق شعبي في برلين بشاحنة، فهذا عارٌ لكل عربي ومسلم، إذ كيف تستهدف من آمّنوك من خوف وآووك من جوع، هل طلب الرسول، صلى الله عليه وسلم، من أصحابه استهداف الحبشة حينما هرب الناس إليها خوفاً على حياتهم من بطش قريش؟
داعش لعبة مخابراتية كبرى، وهي أداة لتصفية الحسابات وتنفيذ العمليات القذرة لمخابرات دول كبرى، ولا أستغرب على تنظيم إجرامي سخيف وغبي مثله ارتكاب الحماقات أو الجرائم، لكن ما يزعجني أن لا أجد إدانة كاملة ومطلقة لما يقوم به هؤلاء المجرمون، وما يؤلمني حقاً أنّنا نخسر الصراع السياسي والعسكري مع القتلة، ونخسر النزال الأخلاقي والحضاري بين الأمم.
أتمنى من أحرار العالم أن يقتنعوا بأنّنا، نحن المسلمين، بطيبتنا ومظلوميتنا، بأخطائنا وخطايانا، فينا المتدين والطيب والشرير والسكير والزنديق، لكن كل ظلمنا يقع على أنفسنا، لا نقتل أحداً، ولا نتقبل القتل، أما هؤلاء القتلة فشيء آخر لا نعرفه، وآخر صفة يمكنك أن تطلقها عليهم صفة "مسلم".
0318F4A2-63C4-46B1-A66F-EAAA865E79DE
0318F4A2-63C4-46B1-A66F-EAAA865E79DE
إبراهيم الزايد (سورية)
إبراهيم الزايد (سورية)