أسود وأبيض
في العديد من البلدان العربية، إن لم يكن في معظمها، لباس المرأة هو اللون الأسود، بينما يرتدي الرجل الثوب الأبيض. ولا بد لهذه الظاهرة من أن تسترعي انتباه من يأتي من ثقافات وتقاليد أخرى، مستدعية لديه تساؤلات من نوع: لمَ ترتدي النساء اللون الأسود، في مناطق معروفة ببلوغها درجات مرتفعة من الحرارة أشهراً قد تطول وتمتد، مع العلم بأن الأقمشة السوداء تمتص الحرارة، وتجعل من يرتديها يعاني، وكأنه داخل حمّام ساونا نقّال؟
ولو تناسى المسببات على اختلافها، مكتفيا برمزية الألوان، ثنائيات أو أضداداً، لتذكّر أن اللون الأبيض هو لون ملائكي، فيما الأسود هو لون الشيطان. الأبيض هو رمز الوضوح، والطهارة، والنظافة، والبراءة، فيما الأسود هو الحزن، والعتمة، والوسخ، والإثم. والأبيض هو النور، والإشعاع، والانفلاش، بينما الأسود هو الاختفاء، والتقلّص، والانكماش. إذاً، وباختصار، أبيض للرجل وأسود للمرأة، برودة للرجل وحرارة للمرأة، نور للرجل وظلام للمرأة، انفلات وتمدد للرجل، وأسر وانقباض للمرأة، طهارة للرجل وإثم للمرأة.
ولو نظر إلى الأمر من الناحية البصرية فقط، أي كمن يتأمل لوحة تشكيلية غير متعددة الأبعاد، لبدا له أن اللون الأسود الذي يُراد به الإخفاء، أو الإلغاء، أو المحو، لهو أكثر بروزاً وشواذاً ولفتاً للانتباه، من اللون الأبيض الذي يُراد له أن يكون محايداً أو أن يُظهر، بالتناقض معه، حدة الألوان الأخرى وتنوّعها، فالبقعة السوداء، مهما صغرت، تجذب تفاصيل اللوحة كلها إليها، كما تجذب ثقوب الكون السوداء المادة وتبتلعها.
هكذا تظهر النساء الملتحفات كلّية بالسواد، للناظر إليهن، أشبه بتماثيل قاتمة، سُرق منها النورُ فعادت لتسرقه انتقاما...
***
يشيب زعماء العالم، يهرمون ويتقاعدون، يُستبدلون ويغيبون عن المشهد السياسي، بينما يبقى زعماؤنا ثابتين، في ذروة الشباب والفحولة أبداً. ولو لم تخنهم بطون أمهاتهم بتواريخ ميلادهم، لظننا أنهم من الآلهة، خالدون مخلّدون، لا يتحولون ولا يتبدلون.
أجل، رؤساؤنا لا يشيخون. تبقى شعورهم وذقونهم سوداء لا يغزوها الشيب، ولا تعرف أدنى شعرة بيضاء إليها طريقاً. حتى من سُجن منهم وحوكم وخرج "بريئاً"، مثَـل داخل قفص الاتهام بشعر مصبوغ بالصبغة نفسها التي كان يستخدمها، حين كان في الرئاسة. ربما كي لا يقال إن أحواله ساءت، إنه نادم أو منهار، أو شاعر بذنب أو بتبكيت ضمير.
والطريف أنهم، من المحيط الى الخليج، ومن الشمال إلى الجنوب، يبدون وكأنهم يستخدمون صبغة الشعر نفسها، تلك الحالكة، القاتمة، الجافة، التي لا بصيص نور أو لمعة أو تموّج فيها، كأنما هم يتبادلون سرّاً اسمها وتركيبتها، أو كأن حلاقا "رئاسياً" واحدا، يتنقّل فيما بينهم، رامياً على رؤوسهم غلالة الحلكة ذاتها.
صبغة سوداء على رؤوسهم وذقونهم، فلا يشيبون، ولا يشيخون. يتجمّد الزمن في صورهم، فننسى أنهم يقبعون على صدورنا وأيامنا، منذ دهور. صبغة شعر سوداء، أجل، المسألة بهذي البساطة. فلا نسائل، ولا نحاسب، ونرضخ، ونقنع، ونصغر، ونسامح، ونتوارى...
***
أسود على أسود على سواد. وأبيض وبياض ينتشر في الأرواح، حتى ليُحرق العين، ويلغي كل الألوان. ثمة ألوان عديدة تحتضر وتغيب. فهنا، لا ضوء كي نراها، كي تعتاش. لا رغبة بها. لا غذاء لها. لا حرية. لا فضاء.
شرائط الأفلام حين تحترق، تبدأ بنقطة بيضاء تروح تتمدد من الوسط وتتسّع باتجاه كل الأطراف. في الغرفة المعتمة التي في رؤوسنا، أفلامُ حياتنا تحترق اليوم تباعاً، على شاشات أيامٍ امّحى اللون من ذاكرتها.
أبيض وأسود. ذلك هو الخيار. وإلا، فأبيض أبيض، أو سوااااااااد.