سُمّي الروائي حنا مينه، حين قُدّم لنا في مرحلة الشباب التي اصطبغت باللون اليساري، بأنه "غوركي العرب". كان لدى المعرّفين العذر في أنهم أرادوا أن يشجعونا على قراءة الكاتب الجديد مشفوعاً بمرجعية شهيرة، إذ كانت رواية "الأم" لغوركي واحدة من الروايات الأكثر قراءة بين المترجَم من الرواية العالمية من جميع اللغات، من جهة، فيما وجدوا أنفسهم في ما يشبه السباق مع زمن أيديولوجي يحتمل أن "يسرق" منهم المرجعية الأدبية للكاتب، أو المصدر "الأصلي" للانتساب الروائي، من جهة ثانية.
لست بصدد تفاصيل التشابه بين "الملحق" العربي و"المرجع" الروسي، إذ إن الثقافة العربية كانت قد استمرأت تلك الاستعارة الوصفية من قبل، وبدأت تسمي الروائيين بأسماء حركية مختلفة. وفيما نال نجيب محفوظ "شرف" أن يكون بلزاك العرب الذي سرعان ما أضيفت إليه خصال من توماس مان الألماني، أو من فورد مادوكس فورد الأميركي، وُصف روائيون آخرون بأنهم كافكاويون أو فوكنريون.
لا أذكر أن ثمة تشابهاً بين "الخماسين" لغالب هلسا و"الصخب والعنف" لفوكنر، عدا الشغل على التقنية، ومع ذلك لا تنجو هذه الرواية من النسبة إلى الفوكنرية في أي شغل نقدي أُشير فيه إليها.
ولم ينج كتّاب القصة القصيرة، أو المسرحيون، من نظرية الاستتباع، فنسبت براعة يوسف إدريس في القص، أو عوالم سعيد حورانية، إلى تشيخوف الروسي، ووضعت علامة بريخت الألماني على مسرح ونوس، أو مسرح ألفريد فرج. وصار من المعتاد أن يجد القارئ أوصافاً "نقدية" تزعم أن هذه القصة تشيخوفية، دون أن يؤازر الوصفَ إنعاشٌ نقدي يبصّر القارئ بماهية التشيخوفية ذاتها.
لا تتحمل الثقافات الأجنبية أوزار هذا التخاذل الثقافي العربي، وما زلت أعتقد أن مسألة الرعاية الأجنبية للنصوص الإبداعية العربية ستظل إشكالية ثقافية ناجمة عن كسل نقدي لا يتجشم عناء البحث عن السمات الإبداعية الخاصة بهذا الكاتب العربي أو ذاك.
وقد يكون نجيب محفوظ الوحيد الذي حظي بدراسات نقدية وافرة حاولت تتبع خصوصية كتابته الروائية، أو الاقتراب من عالمه. فيما ظل معظم الروائيين العرب يقبعون مرغمين وراء المسمّى الأجنبي الذي يضاف إلى معجمه كل عقد كاتب جديد من مشاهير الروائيين في العالم.
والطريف أن ينضم مؤرخ روسي إلى جوقتنا في استعارة أصوات الآخرين، ليكتب عن المؤرخ المسعودي كتاباً أطلق فيه عليه اسم "هيرودوت العرب"! وهذا هو عنوان الكتاب الأصلي، ولكن من هو هيرودوت هذه المرة؟ قد نجد العذر للمؤرخ الروسي الذي يكتب للروس العارفين بهيرودوت، ولكن عنوان الكتاب يبدو في الترجمة العربية مزحة.
لا يعرف القارئ العربي شيئاً يذكر عن كتابة هيرودوت اليوناني، ولا يفيده في شيء أن ينسب المسعودي إليه. غير أن المشكلة تبقى على حالها، حين تسجل مثل هذه العناوين، استخفافاً خبيثاً، أو استهتاراً غبياً، بقيم الثقافة العربية، وكأنما قُدّر عليها، على يد أبنائها، أو غيرهم، أن تكون ملحقة بمنجزات غيرها من ثقافات الشعوب.