ولكن هناك كثر آخرون أصبحوا بالفعل أبناءً لهذه العشائر ولم يستطيعوا المضي خلف الثأر كما فعل البطل في رواية سينويه، حيث ضمت محافظة دير الزور، شرق سورية، المئات من العائلات الأرمنية التي حافظت على اعتناقها للديانة المسيحية وعلى لغتها الأرمنية، وذلك قبل دخول تنظيمات متشددة لها هذه الأيام، ما أدى لحركة نزوح لهم منها، فلم يتبقَّ منهم أحد فيها حالياً. ولم يتمسك الأطفال الأرمن، الذين التجأوا للعشائر العربية في المحافظة على هذين العنصرين (الدين واللغة)، إذ ساهم العمر الغض جداً لهؤلاء، والذي لم تتجاوز سنواته عدد أصابع اليد، باعتقاداتهم الدينية وربما حتى عدم المعرفة بها أساساً، ما جعل أمر اندماجهم بهذه المجتمعات العشائرية العربية التي تعتنق الإسلام كديانة لها هيّناً.
الطفل الهارب الذي أسّس عائلة أخرى
في مدينة غازي عينتاب التركية، التقينا برامي، وهو أرمني الأصل من ناحية أمه، يستطيع أي ناظر أن يلاحظ الملامح الأرمنية الواضحة لديه ولدى أبنائه الخمسة، والدته هي ثمرة زواج تم ما بين جده الطفل الذي التجأ إلى أحد شيوخ العشائر بريف دير الزور أثناء ما يعتبرونه "المذبحة الأرمنية - 1915"، حيث تكفلت به عائلة هذا الشيخ إلى أن أصبح شاباً ثم قامت بتزويجه بفتاة كانت هي الأخرى طفلة أرمنية لجأت لعائلة من عشائر المنطقة حيث قاموا بالتكفل بها إلى أن كبرت، تروي أم رامي لابنها أن جده - وقد توفي حالياً - كان يحدّث أبناءه أنه كان وحيداً لأمه التي آثرت تهريبه من قوافل المهجّرين الأرمن، عسى أن ينجو بحياته من موت محقق بنظرها أصبح قريباً جداً، ولا يعرف بعدها كيف وصل إلى البيت الذي عاش بكنفه لعشرات السنوات إلى أن تزوج فأسس عائلته الخاصة، حيث انخرط في النسيج الاجتماعي بشكل كامل، فزوّج بناته لأبناء العشائر وزوّج أبناءه من بناتهم.
قبل فترة وجيزة توفي أحد أبناء هذه الأسرة جراء إصابته في قصف للطيران الروسي في إحدى قرى ريف دير الزور الغربي. يقول رامي عن ذلك: أقاربي من ناحية أمي لا يشعرون بانتماء غير انتمائهم لمحيطهم الاجتماعي الحالي، رغم أن موضوع أصولهم الأرمنية يذكر أحياناً من قبيل الطرفة فقط، فهم مندمجون في هذا النسيج العشائري ومتكيّفون معه، فهذا الوسط الاجتماعي هو ما ولد عليه جيل الأبناء لهذه العائلات إضافة لعمليات المصاهرة مع العائلات الأخرى والتي تمت عبر عدة أجيال أدت لإذابة أي أحساس لديهم بانتماء آخر غير انتمائهم للوسط العشائري العربي.
نحن لا ننتمي سوى لهذه العشيرة
"لقد أصبحنا مشردين أكثر من الأرمن"، هكذا بدأ أمير (32 عاماً)، وهو أحد أحفاد طفل أرمني التجأ لعشيرة البكارة العربية بريف دير الزور إبان وقائع (المذبحة أو الحرب الأهلية 1915)، حيث تربى وكبر وتزوج ثلاث مرات من نساء هذه العشيرة، كما وهبته هذه العشيرة أرضاً يزرعها كفرد من أفرادها. أمير، وهو جامعي، رفض في بداية الأمر أن يتحدث إلينا قائلاً: لقد مرت مئة عام على الأحداث وأصبحنا جزءاً من هذه العشيرة. نحن لا نحب أن نصنّف خارجهم ولا هم يحبذون تصنيفنا كأرمن.
ويتابع: عندما وصل جدي لأحد أبناء هذه العشيرة كان صغيراً جداً لدرجة عدم تمكنه من الكلام باللغة الأرمنية، أما أقرانه من الأرمن ممن هم أكبر سناً فقد استقر عدد منهم في دير الزور وأكمل آخرون باتجاه حلب ولبنان مع محافظتهم طبعاً على ديانتهم وثقافتهم.
الطفلات والجدات الثلاث
وينفي أمير حدوث أي مبادرة من قبل جهات أرمنية للتعرف عليهم أو ما شابه، ويقول عن ذلك: لم يحدث شيء من هذا القبيل، خصوصاً أن الجهات الأرمنية بأرمينيا ولبنان لا تعترف إلا بمن كانت لغته الأرمنية وديانته المسيحية، والأمران غير متوفران فينا. ويتابع كلامه "والحمد لله"، دلالة على أنه وأهله لا يفكرون بالتعرف على أصولهم الأرمنية بل هم يعتبرون أنفسهم أبناء هذه العشيرة العربية.
أبو عليوي الفراتي، وهو ناشط مدني من ريف دير الزور، يقول: إبان المذبحة قام عدد لا بأس به من أبناء العشائر في منطقة دير الزور بإيواء أطفال أرمن لديهم. أحد هؤلاء كان جدي الذي قام بتربية ثلاث طفلات أرمنيات غير شقيقات في منزله حيث أكملن حياتهن في منزله إلى أن تزوجن من أبناء عشيرة جدي، وذريتهن ما زالت موجودة.
ويتابع: إحداهن بعد أن أصبحت جدة كنا نذهب إليها فتحدثنا عن ذكرياتها في مدينتها في أرمينيا قبل التهجير، حيث تسرد لنا ما تتذكره عن عائلتها ومسكنها، وقد توصل أحد أبنائها لأحد أقاربها من عائلتها الحقيقية وهو مقيم في مدينة حلب، شمال سورية، إلا أن ظروف الحرب حالت دون الذهاب إليه والتعرف على عائلتها.
وبحسب الشهود الذين التقينا بهم، لم تظهر أي من هذه العائلات ميلاً كبيراً للتعرّف على أصولها الأرمنية، وهم متعلقون بوسطهم بشكل كبير، فخلال سنوات الحرب الماضية لم يفكر أحد من عائلة أمير بالهجرة إلى أوروبا، وهو طريق جذب الكثير من الشباب السوري.
لا توجد إحصائيات دقيقة للعائلات التي تتحدّر من أصول أرمنية في دير الزور، وهي مهمة صعبة في ظل اندماج هذه العائلات في الأوساط العشائرية الحاضنة لها وتمسكها الشديد بأواصر القرابة بها، لدرجة عدم تمييز ذوي الأصول الأرمنية عن الآخرين فيها، إلا أن من الممكن أن يصل عددهم للمئات في مجمل دير الزور.
(سورية)