ألمانيا.. مستشار حكم 12 عاماً

28 نوفمبر 2017
+ الخط -
يعتبر الاقتصاد الألماني من أكبر اقتصادات أوروبا، تقوده منذ 12 عاماً سياسة متعقلة بقيادةٍ أقرب إلى اليمين، حسب مصطلحات أوروبا الغربية، استطاعت أن تحافظ على تقدّم مستقر. وقفت أنجيلا ميركل على رأس تلك السياسة، وهي سيدة جاءت من خلفية علمية، وتحمل شهادة دكتوراه في الكيمياء الكوانتية، ما لبثت أن تحولت إلى السياسة بعد أن توحدت الألمانيتان وانهار جدار برلين. نجحت في ثلاثة انتخابات عامة في الوصول إلى تشكيل طليعة سياسة قادرة على إدارة الاقتصاد الضخم وتطويره، وحافظت فيه على ثوابت التطلع نحو أوروبا متّحدة، وعلى شراكةٍ قوية مع فرنسا، وكانت قادرةً على ابتلاع الهزات الكبيرة التي عصفت بجنوب القارة العجوز، فتم امتصاص العجز الاقتصادي في اليونان، ومواجهة قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من دون ارتداداتٍ تذكر، وحافظت على وجه ناصع البياض حيال زلزال المهاجرين الذي اجتاح أوروبا نتيجة الربيع العربي. لكن، يبدو النظام الديمقراطي الآن كأنه يقوم بعملية إحلالٍ ذاتيةٍ، فهذه السيدة تواجه صعوبة في تشكيل حكومة للمرة الرابعة، بعد نتائج انتخاباتٍ حافظت فيها على المقدمة، لكنها لم تحتفظ بالريادة.
خلخل صعود حزب يميني إلى البرلمان لأول مرة القاعدة السياسية المستقرة في ألمانيا، والمقسومة على ثلاثة، بعدد الأحزاب الكبيرة التي تتشاطر الساحة، الحزب المسيحي الديمقراطي والاجتماعي الديمقراطي والديمقراطيين الأحرار. كانت الحكومات ومنصب المستشار ينوس بين هذه الأحزاب، أو بين ائتلافات بينها، وساعد الدستور الألماني على دفع الأحزاب إلى الدخول في ائتلافاتٍ، بدلاً من إعادة الانتخابات التي يرى فيها الدستور تكراراً لما هو حاصل. بعد قيادةٍ ناجحةٍ لمدة طويلة، وجدت ميركل نفسها في وضع صعب، ويبدو أن الجمهور يرغب في تغيير بعض الوجوه، خصوصا التي تربعت على قمة المشهد مدة طويلة، فهو لم يعط حزب ميركل أفضليةً تجعله يفرض شروطاً مريحة على أي ائتلاف، وأدخل أحزاباً يمينية مؤذية، فتقوضت المفاوضات، ووصلت ميركل إلى نقطة ميتة، وهي حالة مقلقةٌ في بلد تتحرّك فيه القطارات بمواعيد لا تتغير أبداً.
ظلت ألمانيا، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مثالاً للثبات السياسي والاقتصادي، ومرجعاً لكل أوروبا عند حدوث ما يقلق استقرار القارة، وازداد الاتكال عليها بعد ولادة الاتحاد الأوروبي، ولم تكن قلقةً من هذا الدور، فقد كانت حريصةً على أوروبا مستقرة وهادئة ومعتمدة على ذاتها بدرجة كبيرة، ولم تشهد في تاريخها انتكاسا سياسياً ببروز أي تيار متطرّف من أي اتجاه، وكأن ألمانيا رغبت بأن تغسل عار سنوات فترة هتلر الذي جلب ويلاتٍ شملت العالم كله. وأفسح فوز إيمانويل ماكرون بقيادة فرنسا، وهو المتحمس لأوروبا متحدة، دفعاً للجانب الألماني الذي يرى في الاتحاد الأوروبي قوة واستقراراً وابتعاداً عن شبح الحروب، ويشكل وجود ألمانيا وفرنسا منصة سياسية واقتصادية، تستطيع المحافظة على هذه الحالة، لكن نتيجة الانتخابات أخيرا التي توحي بتهاوي أسطورة ميركل يهدّد الوضع السياسي للقارة بأسرها، وليس لألمانيا وحدها.
تعتري أوروبا كلها تغيرات سياسية ناشئة عن مستجداتٍ، من قبيل موجات الهجرة وهجمات الإرهاب التي هدّدت الاستقرار، فجنح الجمهور، بنسب متفاوتة، نحو اليمين، وبدا اليسار مضطرباً، فخسر الكثير، وجاء الدور الآن على ألمانيا، وهي عاجزة حتى الآن عن تشكيل حكومة جديدة، وتواجه خيارات وجود حكومة أقلية، أو إعادة انتخابات، وهما خياران يعربان عن الضعف في الأداء السياسي الألماني، وهذا بمثابة جرس إنذار على مستوى قارة أوروبا كلها. ومهما كان الخيار الذي تلجأ إليه المرجعيات السياسية الألمانية، فقد بدا واضحاً أن الجماهير الألمانية ملّت من ميركل نفسها قائدةً لألمانيا بشكل منفرد، وبدأت توجه رسالةً بحروف عريضة إلى كل أوروبا، تقول باختصار مفيد: نحن الألمان لا نختلف عنكم.