بحسب كفافيس، فإن الطريق إلى "إيثاكا" التي سكنت روح أوديسيوس أثناء عودته إليها، أجمل من وصولها، مهما امتدّت الأعوام؛ وتلك، ربما، مبالغة شعرية. لكن كليهما، "إيثاكا" وأوديسيوس، يمثلان حالة استدعائيةٍ ـ وشعرية ربّما ـ بصدد الإنسان الفلسطيني المنفي إلى خارج مكانه، رغم تباين أشكال التصوّر والتعبير. علماً أن الأخير لا يتمنّى "أن يكون الطريق طويلاً"، وتتنازعه أبداً عودتان: عودةٌ يومية إلى فلسطين "المعنى"، وعودةٌ حتمية ـ لكنّها مؤجّلة ـ إلى فلسطين "الأرض".
وفلسطين، المعنى والأرض، ليست مُناظراً دقيقاً لــ"إيثاكا" بالقياس إلى أمد الشّتات الذي طال في أربع رياح الأرض، ولم يعد في وسع الإنسان الفلسطيني احتمال أي تغريبات جديدة؛ فهو حمّالٌ لصخرة نكبته إلى هذه اللحظة، وذاهبٌ أبداً في أعماق الحنين والتجرّح بحلم العودة. أمّا الذاكرة فمترعةٌ بحصادٍ وافرٍ من الألم والأمل على حدٍّ سواء.
ما الذي يُنسي نزيف الأرض ويعطّل الحنين إلى البلاد؟ لا شيء قطعاً؛ لأن الفجيعة أبقى ما دام الواقع في مستوى اللغة، ولأن تاريخ النّاس والبيوت والهواء ما زال يخترق الزمان ويُكتبُ فوق ذلك بحبر التضحية.
أما سدنة النكبة والشتات، الواضحون والمتخفّون، فهم نسخٌ عن الليستريغونيين والسيكلوبات (عمالقة ومردة) لدى كفافيس، ولهم أن يتحاربوا في كوابيس بعضهم بعد أن استمرأوا التكيّف مع كلّ وضعٍ قائم وتخثّروا داخله، كما عثروا فيه على ما يضمن استمرار مصالحهم، حتى لو كانت في قوالب سلام مُسبقة الصّنع، أو عبر استنساخ سيناريوهات تساومية عن أوسلو وكامب ديفيد 2000 وفراخها غير موصلةٍ لكهرباء العودة الكاملة، وتُسرّع تقريباً في الاستجابة للشّرط الاستعماري وتسطيح الوعي شيئاً فشيئاً، سيّما أنّ "المستحيل" و"أمل إبليس في الجنة" يحكمان التقاء الحلم الصهيوني بحلم التحرّر في منام واحد.
الكلام سياسياً وتاريخياً على نكبة 1948 يستدعي نكسة 1967 بالضرورة. فكلاهما ظهيرةٌ للأخرى، تذكّران بأنّ فلسطين ليست اكتشافاً جديداً، وتعنيان الكثير للإنسان الفلسطيني في الداخل والشتات. وهذا المعنى لم يكن وليد لحظته، بل راح يتكثّف في مأساة التهجير والسّير في دروب الآلام، وفي جعل وارث المكان وصاحبه الأصلي لاجئاً ومواطناً من الدرجة الثانية والعاشرة.
واللجوء، موصوفاً على هذا النحو، يتجاوز الشروط الوضعية وصور التشريد والانتقال من داخل البيت إلى خارجه الأجرد، بما يستتبعه من إزاحةٍ قسرية لمجتمع أصيلٍ، وإحلال مجتمعٍ إستعماري دخيل مكانه؛ إذ تتسعُ مفاهيمه وتداعياته لتشمل السقوط في هاوية تاريخٍ آخر وحياةٍ أخرى، وإقصاء اللاجئ إلى هامش كلّ شيء في سيرورة الزمن. رغم ذلك، لم تُنقص أعوام النكبة ـ والنكسة أيضاً ـ من منسوب الإيمان بالعودة، ولم تكفِ للحجْر على الحقيقة أو جعل الهوية خصماً.
أما الكلام أدبياً على النكبة، وشقيقتها النكسة، فيقود إلى ترصّد الكتابة العربية وتأثراتها في الماضي القريب والحاضر؛ إذ ليس لأيّ نكبةٍ أو نكسةٍ فضيلةٌ. لكن نكبة 1948 في الحالة الفلسطينة والعربية نبّهت إلى مدى القصور باستحضار "فلسطين" ما قبل النكبة كثيمةٍ أدبية وفنية إلا في استثناءات قليلة؛ كما هي لدى إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وعبد الرحيم محمود في مجال الشعر، وخليل بيدس في القصة القصيرة، وجبرا إبراهيم جبرا في روايته "صراخ في ليل طويل" التي ظهرت قبل وقوع النكبة بعامين، وتبدو لنا الشرارة الحقيقية للرواية الفلسطينية الحديثة.
رغم قلّتها، يحسب لهذه الاستثناءات مساهمتها النسبية في تحويل الأدب الفلسطيني من نبع صغير إلى رافدٍ من روافد الأدب العربي عبر تعزيز النظرة إليه بعد نكبة 1948 التي أفرزت بدورها صراعاً ثقافياً جديداً، واتخاذ الفنون والآداب الفلسطينية منحىً أكثر اقتراباً من الحرية والثورة والتحرر، يستمدّ ثيماته من واقع الاحتلال والطّرد والاستيلاء والتهجير وروابط الأرض، عطفاً على وعيٍ وإدراك حقيقيّن بأنّ الصراع الثقافي ضدّ العدو الإسرائيلي لا يحتكم لقوة السلاح العسكري وإنما لعدالة القضية؛ ولّدت في مجملها ما عاينه غسان كنفاني لاحقاً وأطلق عليه "أدب المقاومة".
كما أنّ النكبة دفعت بعموم الكتّاب والمثقفين الفلسطينيين والعرب إلى معايشة حالات متأصلة من التأهب والاستشعار لوقوع ما يماثلها، لقاء ما شكلته من صدمة وارتدادات متوالية من الرعب وجلد الذات، وجدت تعبيراً وانعكاساً لها في طبيعة ونوع الكتابة، حيث الاستجابة الإبداعية أكثر وطأة لجهة الخوف والتّهيّؤ للمجهول. كأنّ الأرض أجدبت وفقدت خصوبتها وباتت في حاجة إلى معجزة غيبية وبطولات أسطورية؛ كما تبدّى جلياً ـ على سبيل المثال ـ في هامش واسع من الممارسة الشعرية التي طبعت قصائد بعض الشعراء في أعقاب النكبة، حيث بدت استجاباتهم الإبداعية أكثر تقارباً واتساقاً مع الحالة السياسية والاجتماعية في استشراف ما يُحتمل وقوعه.
السؤال هنا، وفي حالة الكتابة التي تتولّى المسألة الفلسطينية على وجه الخصوص، هل وجدت تلك النزعة الاستشرافية امتدادها العميق وتواترها في سياقات ما يُكتب حتى وقتٍ قريب؟ الجواب برأيي مطوّقٌ بتقويمات نقدية أكثر منها تشكيكات، ويستتبعهُ منطقياً سؤال آخر تعوزه إجابةٌ دقيقة: ما سرّ هذا التراجع والانحسار، كي لا نقول "التلاشي"؟ ثمّ، ألم يعد يؤمن الكاتب والشاعر والمثقف العربي حقاً بجدوى استشراف ما يهدّد وجوده وطمأنينته ومصيره؟
في أيّ حال، النكبةُ أمسٌ من الأماسي السوداء، والخامس عشر من أيار 1948 أكبر من مجرّد ذكرى تقومُ في الصّميم على أدلّة وبراهين، مثلما هو غد العودة أكبرُ من مجرّد حنينٍ وتلبّسات نوستالجية.
الغدُ للفلسطيني كما الأمس له، والعودة مكتملة الأركان والشروط إلى فلسطين هي مصيره حتماً مثلما كان بلوغ "إيثاكا" مصير سلفه اليوناني أوديسيوس. تلك العودة، التي تولدُ كلّ لحظة أكثر صميمية في مرمى الأيام، ستصير سفراً خالداً يجبُّ ما قبله في ساعة الصفر، ويسبّح بحمد الحرية وكرامة الإنسان أبد الدهر.
* شاعر وناقد من الأردن