أثار حكم يقضي ببنوّة طفلة -ولدت خارج إطار الزواج- لأبيها، ضجّة في المجتمع المغربي، الذي يُحمّل المرأة عادة تبعات "أبناء الحرام". هؤلاء الذين وُلدوا خارج بيت الزّوجية -الوحيد المرخّص له بذلك- كـ"حوادث مشؤومة" رغم أنف والديهم، يتنصّل منهم الرّجال عادة، ويبقون على كاهل الأم، أو تحت رحمة الشّارع، إن كان الواقع أقوى من غريزة الأمومة.
يكتسي الحكم أهميّة كبيرة، في وقت برزت فيه بشكلٍ كبير ظاهرة الأمّهات العازبات. نساء حملن من علاقات جنسية خارج الزّواج، فهجرهنّ الحبيب ورفضتهن العائلة. ما جعل عددًا من جمعيات المجتمع المدني تتخصّص فقط في إيوائهن، ومساعدتهنّ على شقّ طريقهن كأمّهات عازبات، يتحمّلن مسؤولية أبنائهن الذين هرب آباؤهم، وتركوهم في رقابهن.
هذا الحكم يعدّ سابقة في تاريخ القضاء المغربي، حيث إن المادة 148 من مدوّنة الأسرة المغربية، تشير إلى أنه لا يترتّب عن البنوّة غير الشرعية للأب، أي أثر من آثار البنوّة الشّرعية. وبالتالي فإنه لم يكن من الممكن قبل هذا الحكم الفريد من نوعه، الاعتراف ببنوّة الأطفال المولودين خارج إطار مؤسسة الزّواج. وتعود بداية القضية إلى أواخر السّنة الماضية، عندما رفعت سيّدة دعوى قضائية أمام قسم قضاء الأسرة، لأنّها أنجبت طفلة من المدّعى عليه خارج إطار الزواج، ورفض الاعتراف بها، ملتمسة من المحكمة الحكم ببنوّة البنت لأبيها، وأداءه لنفقتها منذ تاريخ ولادتها.
الأبّ المُدّعى عليه، رغم تأكّده من أبوته لهذه الطفلة، وإقراره بالعلاقة التي جمعته بالأم، أنكر أبوّة الطفلة. ولجأ إلى ما تتيحه فصول مدوّنة الأسرة في هذا الباب، بكون النّسب في المدونة لا يُثبت إلا بالزواج الشّرعي. حتى وإن أثبتت الخبرة الطبّية المدلى بها في الملف، أنّه الأب البيولوجي للطفلة.
لكن المحكمة تجاوزت الاحتكام لمقتضيات مدوّنة الأسرة، لصالح حماية حقوق الطّفلة. معتمدة على مواد من اتّفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها المغرب، والتي تُوجب على القضاء، تفضيل مصلحة الطفل أثناء وقوع النّزاعات المتعلّقة به، فضلًا عن التّنصيص على حقّ الطفل معرفة والديه البيولوجيين، وتلقّي رعايتهما.
وأخذت المحكمة أيضًا بعين الاعتبار ما تقوله الاتفاقية الأوروبية بشأن حماية الطفل، التي صادق عليها المغرب، بشأن قيام السّلطة القضائية، في حالة الإجراءات التي تشمل الطفل، بدراسة كافة المعلومات قبل اتّخاذ القرار. بالإضافة إلى الدستور المغربي، الذي ينصّ على أن الدولة تسعى لتوفير الحماية القانونية، والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال، بكيفية متساوية، بصرف النّظر عن وضعهم العائلي.
فحكمت المحكمة، بثبوت البنوّة بين الطفلة وبين المُدعى عليه، اعتمادًا على نتائج الخبرة الطبّية، التي أثبتت وجود علاقة بيولوجية بينهما. لكن هذا الحكم يقتصر على البنوّة التي لا تعني بأي شكل إثبات النّسب. حيث رفضت المحكمة منح نفقة للطفلة، باعتبارها من آثار "الزواج الشرعي". وبدلًا من ذلك حكمت بتعويض محدد في 100 ألف درهم، يدفعه المدّعى عليه نتيجة مساهمته في إنجاب الطفلة، من أجل التّكفل بها.
أبناءٌ ولكن
منذ إقرار المدونة سنة 2004، يدور نقاش محتدم حول موضوع البنوّة والنسب. خاصّة في ظل توجّه المغرب إلى تنفيذ التزاماته الحقوقية، النّاتجة عن المصادقة على الاتفاقيات الدولية، بما فيها المتعّلقة بحقوق الطفل. لذا اعتُبر الحكم مناسبة لمناقشة الموضوع بشكلٍ أكثر جرأة، ويتجلّى الفرق بين البنوّة والنسب، في مدونة الأسرة المغربية في التمييز بين البنوّة الشرعية التي يتبع فيها الولد أباه في النّسب، وتنشئ حقوق التوارث فيما بينهما، وينتج عنها موانع الزواج، وحقوق وواجبات أبوية وبنوية. والبنوّة غير الشرعية للأم والأب.
البنوّة غير الشرعية للأم: وهي المعروفة بالبنوّة الطبيعية، يميّز القانون بين النّظرة إليها في اتجاه الأم، التي تستوي معها البنوّة في الآثار التي تترتّب عليها، سواءً كانت ناتجة عن علاقة شرعية أو غير شرعية. وتُعتبر بنوّة الأمومة شرعية في حالة "الزّوجية، والشبهة، والاغتصاب"، في كافة الحقوق المترتّبة عنها، من نسب ومن إرث. غير أنّها تقتصر على العلاقة بين الأم والابن، ولا تمتدُّ آثارها إلى باقي الأطراف كالأجداد، حيث لا يرث الأبناء غير الشرعيين من أجدادهم لأمّهم.
البنوّة غير الشرعية للأب: تنصُّ المادة 148 على أنه "لا يترتّب عن البنوّة غير الشرعية بالنسبة للأب، أي أثر من آثار البنوة الشرعية". وهو حكم قطعي، يتناقض مع القواعد القانونية التي وضعت لحماية حقوق الطفل، والمتعلّقة بقواعد المسؤولية الشخصية، لمن تسبّب بفعله في ميلاد الطفل عن طريق علاقة جنسية، أو جريمة اغتصاب.
بينما أقرّ التشريع المغربي وكذا المواثيق الدولية الإنسانية حقوق الطفل الخاصة، من إنفاق أو تكفّل أو رعاية أو مساهمة في ذلك. إضافة إلى حقوقه المعنوية في "التّسمية، الجنسية، التّقييد في سجلات الحالة المدنية، تحت هوّية كاملة تحمل اسم الأب واسم الأم الحقيقيين إن كانا معروفين ومختارين، أو إن كانا مجهولين أو أحدهما".
المساندون لحكم المحكمة، ذهبوا إلى أن المُشرّع حصر الآثار التي لا تترتّب في الآثار الشّرعية، من قبيل استمرار النّسب الشرعي، وما يُرتّبه من حقوق في التّوالد وحصر الورثة الشّرعيين. وطالبوا بإقرار قواعد المسؤولية المدنية عن السّلوك الشخصي الخارج عن القانون، بشكل يركّز بصفة أساسية على حقوق الطفل النّاتج عن العلاقة. وهذا ما ذهبت إليه محكمة الأسرة في هذا الحكم.
الآباء العازبون
هذا الحكم وغيره، سيُنشئ ظاهرة الآباء العازبين، الذي لن يكونوا في وضعية الأمّهات العازبات اللّواتي يمارسن مهام الأمومة بشكلٍ كامل، لكنّه سيُحمل مسؤولية إنجاب أطفال "غير نظاميين" للرّجال أيضًا. عبر تشجيع إمكانية رفع النساء اللّواتي لا يمكنهن التهرّب من مسؤوليتهن تجاه الأطفال"الحوادث" لأسباب فيزيولوجية، لدعاوى قضائية على شركائهن. ومنح الأطفال الذين ولدوا نتيجة "نزوات"، أو قصص حب لم تكتمل، حقّهم في معرفة آبائهم، وتحمل هؤلاء لمسؤوليتهم، مع كل ما يخلق ذلك من أوضاع جديدة في المجتمع.
مع ذلك لن يكون من السّهل إلحاق كل الأبناء غير الشرعيين بآبائهم. سيتطلب ذلك جرأة من المرأة التي تحمل خارج الزّواج للاعتراف بهذا الحمل، وامتلاك القدرة على مقاضاة الرّجل، ووجود قضّاة يملكون نفس جرأة قضاة محكمة الأسرة في طنجة، التي أصدرت الحكم.
في إطار النقاش الذي حفّزه الحكم، ذهب أحمد الخمليشي مدير دار الحديث الحسنية في ندوة "إثبات البنوة خارج مؤسّسة الزواج"، إلى أن الإقرار بـ"ابن الزنى" يوجد له سند في أحكام الشّريعة، ومن ذلك القاعدة الفقهية، "النسب يُثبت ولا ينتفي إلا باليقين"، وأن "الشرع متشوف لإثبات النسب"، مشيرًا إلى أن هذه القواعد الفقهية تأخذ بالغالب، والقاضي عندما يقرّر حكمًا إنما يراعي الغالب.
واعتبر أن الحكم لم يأت بجديد، سوى أن هذه الطفلة من البنوّة البيولوجية. لأن القانون لم يمنع صراحة إثبات البنوّة غير الشرعية، حسب ما أكدته المادة 142 من مدونة الأسرة، "البنوّة تتحقق بتنسل الولد من أبويه وهي شرعية أو غير شرعية"، لكنه أوضح أن القضاء لا يتناولها لشروط الدعوى المدنية. وإذا بقي الأمر في حدود البنوّة، فلا أثر لها إطلاقًا، لأن المجتمع يقول البنوّة للأب ملغاة لا يترتّب عليها أي أثر، حسب مدلول المادة 148 من مدونة الأسرة. وبالتالي فإن السؤال المطروح هو: هل يمكن استغلال الفجوة الموجودة في قانون الحالة المدنية، لإثبات هوّية البنوة؟ ليجيب، أن الرّاجح هو أن ضابط الحالة المدنية سيرفض.
لا بنوّة بلا نسب
ليست أوّل مرة تقدّم فيها مثل هذه الدّعاوى أمام المحكمة، كما تقول المحامية والحقوقية فتيحة شتاتو في حديث إلى"جيل". بل هناك العديد منها، وأغلبها بعد جرائم اغتصاب، فتكون دعوى البنوّة مرافقة لدعوى الاغتصاب. التي رغم إثبات فحص (الدي إن إي)، وإمكانية وجود علاقة قرابة بيولوجية قوّية، بين الأطفال والمُدعى عليهم، لكن المحاكم كانت ترفض هذه الدعاوى وترفض إثبات البنوّة، لأسباب شرعية. وفي الحالات التي حكمت ببنوّة الأطفال للمدّعى عليهم "حالات اغتصاب"، لا يسجّل الأطفال في الحالة المدنية، رغم إثبات تهمة الاغتصاب على الآباء، والحكم عليهم بالسجن.
وعن الحكم السابق، تقول فتيحة لـ" جيل" في انتظار تثبيته من محكمة الاستئناف، سيواجه تطبيقه عدّة إشكالات. لكنها إشكالات ايجابية على حد قولها، تفتح المجال لنقاش واسع حول الموضوع، ولإمكانية التوسّع في الأحكام الشبيهة بما يحفظ حقوق الأطفال وأمّهاتهم، خاصّة في حالات الاغتصاب التي تُرافع فيها بكثرة.
تضيف فتيحة، لا بنوةّ بلا نسب، فحتى لو حكمت المحكمة بالبنوّة فعدم حكمها بالنّسب يترك الأطفال في وضعيات حرجة. لأنّهم لا يحصلون على حقوق الأبناء الطبيعيين، التي تنصّ عليها المواثيق الدولية. ولا يرثون أباءهم. ودعت العلماء والفقهاء إلى إيجاد حلول شرعية لهؤلاء الأطفال الذين لا ذنب لهم، سوى أنهم جاؤوا عن طريق رغبة عابرة، أو أسوأ، عن طريق اعتداء وحشي.