كنتُ قد اضطررت إلى ترك بيت العائلة والعمل في مكان بعيد عنه، وهذا أيضاً ما حصل مع أخي الأكبر. بقيت أمّي وحيدة في البيت، تتعبّد في أغلب الوقت، وأحياناً تشاهد التلفاز أو تتّصل بأحد أفراد العائلة الذين تشظّوا في جغرافيا البلد الضيّق هذا.
عندما حان موعد اتصالها بي، كنتُ قد قرّرت مواساتها بطريقتي المعتادة... أخبرتها بأنني أيضاً مللت من مشاهدة التلفاز، رغم أني لا أملك تلفازاً أصلاً. غير أنها أخبرتني بأن مشكلتها لا تقتصر على التلفاز، وبأنها باتت، في الآونة الأخيرة، تعاني من شيء آخر غير الملل.
- خيالاتي تلتصق على الجدران البيضاء... أقصد أنَّ كلّ ما يدور في رأسي أجده مرسوماً على الحائط. وهذا الأمر صار يزعجني فعلاً.
على الرغم من أنَّ ما روته لي عن الجدران والخيالات التي ترتسم عليها أشعرني بالذعر، إلّا أنني قرّرتُ أن أستغلّ ذلك لصالحها. بعثتُ لها في اليوم التالي أقلام فحم وأوراقاً للرسم، تحجّجتُ بمناسبة عيد الأم الذي كان قد مضى شهر كامل عليه، فقالت لي متسائلةً: ماذا سأرسم؟
طلبتُ منها أن ترسم تلك الخيالات... أن تنقلها من الحائط إلى الورق. في البداية، كانت متردّدة جدّاً من قدرتها على نقل تلك الأفكار إلى الأوراق. لكنها، وبعد مدّة قصيرة، صارت تترك لي، كلّ يوم، صورة لإحدى رسماتها عبر بريدي الإلكتروني... معظم الرسمات تحاكي حياتي اليومية المفترَضة. ترسمني جالساً في المكتبة، أو شارد الذهن في الباص. ومع مرور الأيام، صارت تتكرّر الرسوم نفسها مع إضافات طفيفة جداّ، غير أنّني سأكتشف، مع الوقت، أنها إضافات دقيقة جدّاً.
لم أكن قادراً على تصديق ذلك في البداية؛ إذ كنتُ شخصاً لا يؤمن بالخوارق. لاحقاً، صرتُ أتأكّد من أنَّ أمّي ترى كلّ ما يحدث معي بالتفصيل، كأنما كانت ترسل خلفي كاميرات متنقّلة ترصد حركاتي وسكناتي. رسمت، مرّة، شجاري مع أحد الزبائن، ومرّةً أُخرى مرق الفاصوليا التي أكلت، رسمتني، أيضاً، وأنا جالسٌ أُجري اتّصالاً هاتفياً قرب النهر.
صرتُ أصدّق كلّ خيالاتها. أعود، كلّ يوم، إلى الشقّة وأتفقّد بريدي الإلكتروني، وأرى رسمتها الجديدة، وهي تُجسّد ما عشتُه خلال اليوم بشكل دقيق جدّاً.
أكتب لكم الآن، لأني منذ لحظات رأيت آخر رسمةٍ لها وردتني عبر البريد... كنتُ معلَّقاً من رقبتي في السقف، على مقربةٍ منّي حاسوبي اللوحي مرسومٌ على شاشته كثير من الرؤوس المتطفّلة التي تحاول أن تخرج منه لترى جسدي الذي يتدلّى من السقف.
يبدو أنّني الآن أكتب لكم ذلك... أنتم الوجوه التي تحصرها الشاشة الصغيرة، لأخبركم بأنني - ربما - سأُعلّق نفسي إلى السقف، ولا أعرف لماذا. لكني متأكّد من ذلك، لأني أعرف أنّ لأمّي قلباً قادراً على شقّ السماء ومعرفة ما سيحدث بالتفصيل، وأنّني سأنتهي اليوم بواحدٍ من أسوأ كوابيسها.
* كاتب من العراق