أن تشتري الهواء
هل تتنفسُّ بالمجان؟ هل تقوم بجولات مشي ونزهات مجّانية؟ هل تسافر متى شئت؟ هل لديك مكان مفضل تحب الذّهاب إليه مرة تلو أخرى؟ كلّ هذا سينتهي قريبًا.
زرتُ السّنة الماضية نافورة تريفي Fontana di Trevi في روما، وهي من أشهر النّوافير في العالم. وهالني الزّحام حولها، الذي يفوق تكدّس السيّاح أمام لوحة الموناليزا في زاويتها في متحف اللّوفر في باريس، بشكل يفسد على زوارها متعة رؤية واحدة من المعالم الأثرية الأشهر في العالم؛ حيث تبدو أقلّ حجمًا مما يتخيل السائح قبل زيارتها. ووسط هذا الحشد، تتحوّل هذه المعالم إلى ما يشبه علامة "كوكا كولا" في سوق شعبي، أو شاحنة بطّيخ أحمر التفّ حولها عشرات الجائعين والعطشى، في صيف قائظ.
لا أحد من المرابطين أمام النّافورة كان يبدو مسرورًا، لكنّهم ازدحموا في السّاحة الصّغيرة المحيطة بها على الرغم من ذلك؛ لعلهم ينتظرون انفضاض الجمع للانفراد بها، أو لربّما فاجأتهم حقيقة الازدحام. وهم لا يتزحزحون عن محيطها، لأنّهم لا يصدّقون أنّهم قطعوا كل هذه المسافة من قارّاتهم، ومدنهم البعيدة، كل يحمل قصة حياة مختلفة عن الآخر، ليقفوا هذه الوقفة المحبطة ضمن هذا الحشد الهائل الذي قطع مسافة طويلة ليصطدم بالازدحام، مثلما حدث معهم.
وسط الحشود الكثيفة، تتحوّل المعالم السياحية إلى ما يشبه علامة "كوكا كولا" في سوق شعبي، أو شاحنة بطّيخ أحمر التفّ حولها عشرات الجائعين والعطشى، في صيف قائظ.
هذا المشهد وغيره، وخارج سياق أزمة العالم الحالية، يُعيد إلى الأذهان مطالب ساكنة عدد من الدّول والمدن السّياحية حول العالم بتخفيض عدد زائري مدنهم، بعد أن ضاقوا ذرعًا بجبروت الحشود، وعدم ترشيد استهلاك الفضاء العام.
ومع أن هذا الفضاء ليس مجّانياً تمامًا، لأنّك تدفع أموالًا طائلة، لتصل إليه في موقعه، لكنّه يبقى مع ذلك مجّانيًا في إمكانية مشاهدته والاقتراب منه، لذا لا يفكّر النّاس في ترشيد استهلاكه؛ إذ بإمكان السّائح أن يذهب كلّ يوم إلى مكانه المفضّل، في مدينةٍ ما، ولن يمنعه أحد، حتى وإن كان الأثر المقصود بمقابل، مثل أشهر المتاحف في العالم التي لا يخفّ الإزدحام فيها، على الرغم من رسوم الدّخول الباهظة أحيانًا، فما الذي يمنع سائحًا من صرف عشرين أو خمسين يورو في تذكرة متحف أو مبنى تاريخي، بعد أن أنفق مئاتٍ منها في الطائرة والفندق؟ وإذا كان يمتلك المال، يمكنه العودة إليها مرّات بلا عدد.
لنأخذ مثال الحرم المكي الذي تم اللجوء إلى تقييد حجّاجه، بعددٍ تتسّع له جنباته، ويتم توزيع الحصص على الدول، لأنّ في حالة عدم التّقييد، سيدوس الحجاج بعضهم، بشكل قد يصل حتى الموت أحيانا. ومع ذلك لن يفكّر أحدهم في التخلف عن زيارة الحرم من تلقاء نفسه، حماية له ولغيره. عدا خطر الموت في الزحام الشديد، لنتخيّل لو زار كلّ من ينوي أداء شعائر الحج مكة؟ كانت الزيارة ستفقد هدف العبادة، وتتحوّل إلى مزار سياحي مفتوح، يصبح من جهة أخرى محط احتكار الذين يستطيعون تحمّل زيارته دائمًا، فإذا كان محبّو الفنون الذين يعشقون فنانًا أو لوحة يقومون برحلة طويلة إليها، ويجدون أنفسهم أمامها، ومع الزحام يكتفون بنظرة عابرة، من دون تحقيق متعة التأمّل في تفاصيلها. فكيف بمن يزور للعبادة؟ هل سيُبقى الزّحام مجالا لروحانيتها؟
في شقّ العبادة، أتذكّر الازدحام الذي تعرفه أقسام النّساء في المساجد المغربية في رمضان. وكيف كنت أجد نفسي وأنا أركع وأسجد، أحاول تفادي الاحتكاك بأقدام المرأة التي تصلي أمامي، بدون تركيز في الصّلاة على الإطلاق. ويحدث المشهد نفسه كل سنة، لأن مساجد النساء صغيرة ومحصورة داخل جدران المسجد، بينما في وسع الرّجال التوسّع في الشوارع والحدائق المجاورة. ويفترض في هذا الازدحام أن يفرض نظاما معينا، تعود بموجبه النّساء اللواتي يأتين متأخرات إلى بيوتهن. لكن هذا لا يحصل؛ فبدافع تقاسم الأجر تطلب إحداهن من أخرى أن تفسح لها مكانا، وبعدها تضطر صاحبة المكان لتقاسمه معها رغما عنها. نتحدّث هنا عن مساحة نصف متر عرضا ومتر ونصف طولا. فأيّ أجر يمكن أن ينتج عن هذه الصّلاة؟ وكيف لا تغير هؤلاء النساء تصرّفاتهن على مر السنين، بل كيف لا تتدخّل الوزارة لتنظيم هذا الأمر؟ لا أحد يعرف.
إذا أردت حرية التجول، تختار القفار والغابات بعيدا عن المجتمعات الحديثة.
في رواية الفائزة بجائزة نوبل للآداب، أولغا توكارتشوك، "رحالة"، تحتفي البطلة بالسّفر العادي الذي لا يقصد معالم سياحية، بل يكتشف الأماكن العادية التي نعيش فيها ونتنفس، من دون أي جاذبية على الإطلاق؛ مقاهٍ عادية، محطّات قطار كئيبة، أو مطارات رمادية.. لا شيء متميّز على الإطلاق، غير الإحساس بالحركة المتواصلة وتغيير الوجوه والمناخات والأمكنة. قد يكون هذا السّفر السّياحة البديلة التي تستبدل المناطق المشهورة والمزدحمة بأمكنة مجهولة، ويكون في غموضها وغياب الحشود متعة تفوق متعة الحج السّياحي. فما تعرفه المعالم السياحية في العالم من ازدحام مخيف، لا يمكن الحد منه إلا بالتّقاسم، وتحديد العدد المسموح به، لكن سنحتاج منظمة عالمية للسياحة، تحدد قسمة الفرد من الزيارات السياحية، وهذا أمر خيالي الآن، لكن من يدري عن المستقبل؟
لا يتعلق الأمر دائمًا بالمكان بوصفه مساحة، بل باعتباره هواء، وحقّنا في استنشاق أوكسجين نقيّ لا يشوبه التلوث أو تقتحمه الفيروسات، لذا لم تعد تعبيرات مثل "وحدة المصير" و"المشترك الإنساني" مصطلحات فضفاضة، تُستخدم في الأدبيات السّياسية والبيانات الحقوقية، ولا هي جمل صالحة لتبرير قراراتٍ تستخف بسيادة دول مجاورة وغير مجاورة. بل هي أجدر بالنّبش الآن، ونحن نرى استهلاكًا فظيعًا لهوائنا الذي نشترك فيه جميعًا، ليس من طنجة إلى الكويرة، حين يتحدّث المغاربة من منطلق وطني، ولا من المحيط إلى الخليج في الخطاب العروبي، بل من أقصى نقطة على الكوكب إلى آخرها؛ فالهواء خيرٌ مشترك علينا تقاسمه لنبقى. لهذا لن نترشّد في استهلاك الماء والهواء فقط، بل علينا كذلك أن نُرشد استهلاكنا الفضاءات العامة، الشّواطئ والغابات. بل والمزارات السياحية أيضا.
نحن مقدِمون مع دخول زمن الهواء بشرائه على انبثاق مجتمعاتٍ عشوائيةٍ تعيش على هامش المدن الكبيرة بلا نظام أو حقوق أو قيود
لن يكون ثمة شيء مجاني ومتاح بلا حدود، فحيثما كنت، تدفع أو تغادر، مثلما كانت السيارات تتوقف بالمجّان، بدون تحديد للزّمن. الآن، عليك قبل أن تشتري سيارة أن تجد لها مرأبا، وتستعد لجنون البحث عن مكانٍ للرَّكن كلما قُدْت سيارتك. وسيصبح التجوّل بدفع مقابل مالي، وإلا ستدفع غرامة، ولن تخرج كل الأسر مع بعضها، لأنّ الخروج مكلف. وإذا أردت حرية التجول، تختار القفار والغابات بعيدا عن المجتمعات الحديثة.
لذا نحن مقدِمون في الأمد البعيد، ومع دخول زمن الهواء بدفع مقابل، بشرائه، على انبثاق مجتمعاتٍ عشوائيةٍ تعيش على هامش المدن الكبيرة بلا نظام أو حقوق أو قيود. مثلما نرى في أفلام وأدب الديستوبيا (المدينة الفاسدة، في مقابل اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة). لا شيء مجاني من الآن فصاعدًا، وإلا علينا أن نمرّ جميعا في مصفاةٍ كبيرةٍ تختار من يعيش في بحبوحة، ومن عليه الاختفاء لأنّه يشكّل عائقًا، لأنه فردٌ في الحشد الذي عليه أن ينفضّ ويتفرّق، قبل أن "نتفرتك" جميعًا. وما تفعله كورونا هو بداية الفرتكة الإجبارية التي تضطّر الطبيعة للقيام بها، ما دمنا لم نحترمها.