23 أكتوبر 2024
أهي الموجة الثانية من الربيع العربي؟
تصادف أنني كنتُ في القاهرة خلال الذكرى الثانية لثورة 25 يناير، في العام 2013. وقتها كان ثمة جدل كبير في الشارع المصري بين مؤيدي حكم الإخوان المسلمين ومعارضيه.
أتيح لي يومها أن أجول بين خيام المعتصمين في ميدان التحرير، المطالبين بإسقاط حكم "الإخوان"، وما حوله. وفي ميدان طلعت حرب، المجاور، كان ثمّة نقاش حاد بين مجموعتين من الشباب. المؤيدون للرئيس الإخواني محمد مرسي كانوا يقولون إن الرجل لم يأخذ فرصته بعد لتحقيق أهداف الثورة؛ فالذي يريد أن يبني "عمارة" يُعطى فرصة سنتين لإتمام عمله، فما بالكم إذا كان الأمر يتعلق بإعادة بناء بلد كبير هدمه الفساد على مدار ثلاثين سنة؟ هل تكفيه مدة الأشهر الستة التي كان قضاها على كرسي الرئاسة حتى ذلك الوقت، لإنجاز عمله؟ أما المجموعة الأخرى المؤيدة للتظاهر في ذكرى الثورة، فكانت تقول إن الانتظار أكثر يعني منح مرسي و"الإخوان" فرصة للسيطرة على البلاد بالطريقة التي كان يسيطر بها نظام حسني مبارك عليها، فالفرق بين نظامي مبارك والإخوان المسلمين كان لا يعدو، في رأيهم، أن الثاني "مركّب لحية"!
المأزق الكبير الذي عانته ثورة يناير، وثورات الربيع العربي كلها، أنها فهمت هدف الثورة على أنه السعي إلى إحلال مجموعة حكم جديدة محل مجموعة الحكم القديمة، ولو بأدوات وممارسات قد تتشابه مع أدوات الأنظمة المخلوعة وممارساتها إلى حد بعيد. ولهذا، لم تتطرّق الثورات إلى المطالبة بتغيير أدوات الحكم وممارساتها نفسها، بغض النظر عمن يحكم. وعلى سبيل المثال، لم يكن المحتجون في ميدان التحرير، في ذلك اليوم من العام 2013، معنيين بتغيير أدوات الحكم، بل بتغيير "من يحكم" وحسب؛ رافعين شعار الثورة ذاته "الشعب يريد إسقاط النظام"، مطالبين برئاسة جديدة تنتمي للتيار المدني، عوضاً عن التيار الديني. وهكذا أدى استمرار الخلاف بين مجموعتين سياسيتين في مصر يومها؛ إحداهما تستند إلى الخطاب الديني، والأخرى إلى المدني، عوضاً عن الاتفاق على المصالح الوطنية العليا التي تخدم الدولة في إطارها الجغرافي المحدّد، وتعالج قضاياها في حدود الزمان الذي يعيش فيه شعبها، إلى عودة العسكر للسلطة في نهاية المطاف، واستعادة دولة الاستبداد وتبخر أحلام الثورة.
والحال أن ثورات الربيع العربي لا يمكنها أن تنجح في تغيير واقعنا المعاصر، ما لم تفهم دورها باعتباره إحلال "دولة المواطنة" محل "دولة العصابة". وذلك يقتضي أن يكون همّ الثورات
إقرار مبادئ المواطنة ضمن ثنائية الحقوق والواجبات، بدل التركيز على "من يحكم؟" و"ما هو خطابه؟"، فهذا سيفضي، بالضرورة، إلى إحلال عصابة حكم جديدة محل العصابة المخلوعة.
من هذه الزاوية تحديداً، تبدو المقدمات الثورية في مصر اليوم، والتي أطلق شرارتها المقاول والفنان محمد علي، مختلفة عن سابقتها التي في يناير/ كانون الثاني 2011، ذلك أن محمد علي يشدّد، في رسائله المصوّرة، على ضرورة إعادة الحكم إلى الشعب، وكفّ يد الرئيس عنه ليكون رمزاً للدولة وحسب، يديرها ولا يحكمها كما يقول، فلا يكون ثمّة مجال لصنع دكتاتور جديد. ولو أن الثورة وضعت يدها على هذه المسألة، وأدركت أنها كانت مقتل ثورة يناير، وكل الثورات العربية بلا استثناء، فإنها ستكون بمثابة بوابة لفتح جديد في دنيا العرب. نقول هذا من حيث المبدأ، ولسنا ندري بعد مآلات الأمور بين المصريين ونظام الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ومن الزاوية نفسها أيضاً، يمكن استنتاج سرّ تفوق الثورة التونسية على نظيراتها في بلدان الربيع العربي الأخرى. لقد أجادت الانتقال، في لحظة مناسبة، من شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" إلى شعار "الشعب يريد دولة المواطنين"، حتى لو لم تقله صراحة. هكذا تمكّنت الثورة من إفراز نظام سياسي تنتقل السلطة فيه سلمياً، ويتنافس المرشحون فيه على قاعدة التوافق الوطني، لا على أساس السعي إلى إلغاء الآخر، وتلك أولى مراحل النجاح، لا نهاية مطافها.
إذا تحققت هذه التصورات في الحالة المصرية حقاً، نكون قد دخلنا الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي، الساعية إلى التخلص من الاستبداد: الفاسد، والعميل للأجنبي، فالثورات ذات كرّ وفرّ، والتاريخ لا يمضي إلى الوراء.
المأزق الكبير الذي عانته ثورة يناير، وثورات الربيع العربي كلها، أنها فهمت هدف الثورة على أنه السعي إلى إحلال مجموعة حكم جديدة محل مجموعة الحكم القديمة، ولو بأدوات وممارسات قد تتشابه مع أدوات الأنظمة المخلوعة وممارساتها إلى حد بعيد. ولهذا، لم تتطرّق الثورات إلى المطالبة بتغيير أدوات الحكم وممارساتها نفسها، بغض النظر عمن يحكم. وعلى سبيل المثال، لم يكن المحتجون في ميدان التحرير، في ذلك اليوم من العام 2013، معنيين بتغيير أدوات الحكم، بل بتغيير "من يحكم" وحسب؛ رافعين شعار الثورة ذاته "الشعب يريد إسقاط النظام"، مطالبين برئاسة جديدة تنتمي للتيار المدني، عوضاً عن التيار الديني. وهكذا أدى استمرار الخلاف بين مجموعتين سياسيتين في مصر يومها؛ إحداهما تستند إلى الخطاب الديني، والأخرى إلى المدني، عوضاً عن الاتفاق على المصالح الوطنية العليا التي تخدم الدولة في إطارها الجغرافي المحدّد، وتعالج قضاياها في حدود الزمان الذي يعيش فيه شعبها، إلى عودة العسكر للسلطة في نهاية المطاف، واستعادة دولة الاستبداد وتبخر أحلام الثورة.
والحال أن ثورات الربيع العربي لا يمكنها أن تنجح في تغيير واقعنا المعاصر، ما لم تفهم دورها باعتباره إحلال "دولة المواطنة" محل "دولة العصابة". وذلك يقتضي أن يكون همّ الثورات
من هذه الزاوية تحديداً، تبدو المقدمات الثورية في مصر اليوم، والتي أطلق شرارتها المقاول والفنان محمد علي، مختلفة عن سابقتها التي في يناير/ كانون الثاني 2011، ذلك أن محمد علي يشدّد، في رسائله المصوّرة، على ضرورة إعادة الحكم إلى الشعب، وكفّ يد الرئيس عنه ليكون رمزاً للدولة وحسب، يديرها ولا يحكمها كما يقول، فلا يكون ثمّة مجال لصنع دكتاتور جديد. ولو أن الثورة وضعت يدها على هذه المسألة، وأدركت أنها كانت مقتل ثورة يناير، وكل الثورات العربية بلا استثناء، فإنها ستكون بمثابة بوابة لفتح جديد في دنيا العرب. نقول هذا من حيث المبدأ، ولسنا ندري بعد مآلات الأمور بين المصريين ونظام الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ومن الزاوية نفسها أيضاً، يمكن استنتاج سرّ تفوق الثورة التونسية على نظيراتها في بلدان الربيع العربي الأخرى. لقد أجادت الانتقال، في لحظة مناسبة، من شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" إلى شعار "الشعب يريد دولة المواطنين"، حتى لو لم تقله صراحة. هكذا تمكّنت الثورة من إفراز نظام سياسي تنتقل السلطة فيه سلمياً، ويتنافس المرشحون فيه على قاعدة التوافق الوطني، لا على أساس السعي إلى إلغاء الآخر، وتلك أولى مراحل النجاح، لا نهاية مطافها.
إذا تحققت هذه التصورات في الحالة المصرية حقاً، نكون قد دخلنا الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي، الساعية إلى التخلص من الاستبداد: الفاسد، والعميل للأجنبي، فالثورات ذات كرّ وفرّ، والتاريخ لا يمضي إلى الوراء.