اقرأ أيضاً "ذوبان الجليد الكوبي": مشهدية هافانا تختصر إرث أوباما
جميع هذه التطورات، والجزيرة التي تقع في الخاصرة الشرقية للقارة الأميركية، خارجها بالكامل، نتيجة القطيعة والحصار. توقف زمن التحولات فيها عند العام 1960. تحايلت على التحولات، وصمدت حتى جاء باراك أوباما. الرجل يبدو مولعاً بدخول التاريخ. وعد منذ انتصر في معاركه الانتخابية أنه سينهي مجموعة من الملفات العالقة؛ كانت البداية من العراق، بإعادة قوات الاحتلال الأميركية إلى البلاد، ثم المصالحة مع إيران، وإنجاز اتفاق نووي تاريخي. لكن تبقى ثمرة كوبا، وعليه قطفها قبل الرحيل، وقد شارفت ولايته الثانية والأخيرة على الانتهاء. إنه الوقت المناسب.
في هافانا، رجل يصمد منذ أيام الثورة. رافق أخاه "الزعيم" فيديل كاسترو، منذ وُلدت بنات أفكار الأخير الأولى للتخلص من الإمبريالية الأميركية. منذ حرّض شبابا كوبيين يافعين على الاحتجاج أمام السفارة الأميركية، بعدما أهان جنود أميركيون تمثال البطل القومي للقارة الأميركية الذي قاتل ضدّ الاستعمار الإسباني خوسيه مارتي، عبر قضاء حاجاتهم عليه. رجل، رافق أخاه منذ شرارة 26 يوليو/تموز، التي حملت بضعة شباب إلى جبال سيرا مايسترا، حيث تدّربوا على السلاح لدحر الديكتاتورية عن البلاد بالتمرّد العسكري.
في "هابانا"، كما تُلفظ بالإسبانية، يمكث راوول كاسترو. ماذا سيترك للكوبيين الفقراء المتذمرين وقد تجاوز الـ 85 عاماً؟ يكفي لأخيه فيديل أنّه صمد أمام الإمبريالية الأميركية لعقود. ولعلّه الرجل الوحيد في التاريخ الحديث، الذي يُسجّل له تحدّيه للأميركيين، وعدم التسليم لهم حتى النفس الأخير من رئاسته. أما راوول، فإنه لن يُذكر بأكثر من كونه ظلّ أخيه.
لكن يبدو أنّه قرّر تغيير ذلك. وجاءت اللحظة التاريخية التي التقت فيها مصالح رجلين: أوباما وراوول. كلاهما يريد دخول التاريخ، كما يقول دبلوماسي عربي في هافانا لـ"العربي الجديد" في شرحه للزيارة التاريخية لأوباما إلى الجزيرة.
الكوبيون متحمّسون للتغيير
يريد راوول أن يذكره الكوبيون بأنّه هو من ألحقهم بالزمن، خصوصاً أنه لم يبق له الوقت الكثير نظراً لتقدّمه في السنّ، يقول الشاب الكوبي هارولد، الذي يبدو متحمّساً جداً لزيارة أوباما. شأنه بذلك شأن الممرضة أنّا، وأريل، الذي ينشط في العمل مع السياح الذين يملأون الجزيرة. وشأن سائق سيارة الأجرة والطبيبة ماريا، والسيدة العجوز التي بعثت برسالة إلى أوباما تدعوه فيه إلى تناول القهوة الكوبية في منزلها. لم يتأخر ردّ ساكن البيت الأبيض بالترحيب، على رسالة السيدة الكوبية "البرجوازية" نوعاً ما مقارنة بفقراء كوبا، بما أنّها تتقن الإنجليزية، التي تعلّمتها في دروس خاصة، كونها لا تدرّس في المدارس الكوبية.
الحماسة الكوبية للزيارة تظهر أيضاً من خلال الصورة اليتيمة لأوباما وراوول التي التقطت في بنما، ووضعت أمام مقهى في وسط هافانا القديمة. وفي العلم الأميركي الصغير الذي رُفع على النافذة الأمامية للسيارات الأميركية القديمة، التي صمدت بدورها مع الثورة، لتعبّر عن تاريخ القطيعة والحصار.
يتفق الجميع على الرغبة الجامحة في التغيير. ويلتقون في التعبير عن "الأمل" الذي يمثله الانفتاح على الأميركيين. تقول الممرضة أنّا لـ"العربي الجديد" إنّ الكوبيين لم يعودوا يحتملون وجودهم خارج الزمن، تريد أن تحصل على الإنترنت والسلع المتنوعة. تحلم بالتنقل بحرية إلى الشمال، فيما تذهب جيني إلى القول إنّها تريد أن تأكل "ماكدونالدز"، أو على الأقل أن تملك الحق في اختياره. عبارة صارت تتردد مثل الكليشي منذ قيلت مرة عشية انهيار الاتحاد السوفييتي.
أمام مبنى السفارة الأميركية - العربي الجديد |
هافانا نفسها متحمسة للزيارة؛ قد يمنعها غرورها "الثوري" من إظهار ذلك بلافتات ترحيب، لكن هناك أدلة عديدة على ذلك، مثل انشغالها خلال الأيام الأخيرة السابقة للزيارة بتعبيد الشوارع وإصلاحها، خصوصاً تلك المتوقع أن يمرّ بها الزائر الأميركي الاستثنائي منذ عام 1928، تاريخ زيارة آخر رئيس للولايات المتحدة إلى الجزيرة، وكان حينها كالفين كوليدج.
لعلّ أكثر ما يسرّ أرييل هو إصلاح الشوارع، إذ لم يسبق له أن عرف هذه الورشة من العمل إلا مع الزيارة التاريخية الأخيرة لبابا الكاثوليك، يقول ذلك ساخراً. واهتمت السلطات أيضاً بمبنى رياضي، حيث يتوقع أن يحضر أوباما مباراة للبيسبول. وعن ورشة الطلاء والتعبيد، يعلّق دبلوماسي عربي في هافانا بالقول: "إنّهم يتزيّنون للعدو".
يرى هارولد أنّ الكوبيين يحبّون أوباما تحديداً لأنّه "لجم المعارضة الكوبية" الناشطة خصوصاً في ميامي، التي لا تبعد عن الجزيرة أكثر من 80 ميلاً بحرياً. غير أنّ الكوبيين يحبّون الولايات المتحدة الأميركية أيضاً، وإلا كيف تفسر آلاف طلبات الحصول على تأشيرة الدخول المقدّمة إلى السفارة الأميركية منذ افتتاحها، لكن لا يُقبل منها سوى العشرات، على ذمة هارولد، الذي نجح بالحصول على تأشيرته، وزار الولايات المتحدة مرّتين. لكن الشاب لا يرغب بمغادرة بلده، على عكس الكثير من الكوبيين؛ فقد سمح له عمله في القطاع السياحي الخاص، بتحقيق دخل مرتفع نسبياً. والعمل بالقطاع الخاص أمر غير مألوف بالنسبة للجزيرة الشيوعية، غير أنّ النظام أفسح المجال بشكل محدود جداً في السنوات الأخيرة.
تعدّ الولايات المتحدة أرضاً مغرية بالنسبة للكوبي، الذي يحظى، ما أن تطأ قدماه أراضي العم سام، على وضع استثنائي: تأمين صحي، وراتب شهري، كما تُسهل إجراءات الإقامة له، على عكس نظرائه من أميركا اللاتينية. يعلق هارولد على التسهيلات الأميركية بقوله إن المكسيكي الراغب بالهجرة إلى الشمال، مستعدّ أن يقتل الكوبي، إن مرّ في أراضيه راحلاً إلى الولايات المتحدة، بغرض الحصول على جواز سفره، وبالتالي على الامتيازات التي يتمتع بها الكوبي هناك.
اقرأ أيضاً: الكوبيون "يشبعون" من شواطئهم.. قبيل "الغزو الأميركي"
بحصة في عين الإمبريالية
مع تنقل أوباما في شوارع هافانا، ولقائه التاريخي مع قادة الجزيرة الشيوعية، سيلقى ترحيباً بالغاً، خصوصاً أن السلطات الكوبية سمحت له بحرية الحركة ولقاء شخصيات من المعارضة، وإن لم تكن معارضة فاعلة، كون المشاكسين الكوبيين الحقيقيين ينشطون من أراضي دولته، وتحديداً في ميامي. غير أنّه سيرى مجسمات وتماثيل ورافعات أعلام وأسماء بارزة تُشير إليه، وتحاصره من كل جهة، ما أن يطأ السفارة الأميركية.
تمثال خوسيه مارتي يشير إلى مبنى السفارة الأميركية - العربي الجديد |
وفيما تتوزّع غالبية سفارات دول العالم في منطقة ميامار، القريبة من وسط هافانا، داخل أبنية قديمة بهندسة معمارية تعود لخمسينيات القرن الماضي، ترزح سفارة واشنطن في مبنى متعدّد الطوابق، هو نفسه المبنى القديم قبل قطع العلاقات. لكنه يبدو جديداً ومميزاً عن بقية الأبنية المتناثرة في المدينة. على مدى سنوات الحصار، سوّر الكوبيون هذا البناء برافعات أعلام حديدية طويلة جداً، بحيث تحجب مبنى السفارة بالكامل من مسافة قريبة. تحمل هذه الرافعات أعلام كوبا عادة في المناسبات الرسمية والاحتفالات الوطنية، في مشهد يشي بتعالٍ على تلك الإمبريالية المهزومة في خليج الخنازير، غير أنها هذه المرّة كانت فارغة.
بعد سور الأعلام، تمتد مجسمات وأنصاف دوائر حديدية ضخمة، ثم خمسة مكعبات إسمنتية تحمل خمس شعلات. وفي آخرها، عند المنتصف، يرزح تمثال لخوسيه مارتي، حاملاً طفلاً يتكئ على كتفه في يد، وفي يده الأخرى يشير بأصبعه إلى السفارة، وكأنه يريد أن يقول للطفل "هؤلاء هم من قتلوا أهلك"، هذا ما يتداوله الكوبيون عن التمثال. ويرفع تمثال مارتي كلماته عن الاستعمار، وأخرى لسيمون بوليفار، الرمز الآخر للوحدة الأميركية اللاتينية.
أما المكعبات الإسمنتية التي تعلوها مجسمات على هيئة شعلات، فتحمل لافتات حديدية صغيرة وُضعت عليها أسماء مناهضي الإمبريالية والرأسمالية في مراحل متفاوتة تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر. اجتمعت لوحات أسماء شيوعيين شأن كارل ماركس وفريديريك أنجلز وتشي غيفارا وسيليا سانشيز وغيرهم في مكعب واحد، وفي آخر اجتمعت لوحات تعود لتوماس أديسون وأرنست هيمنغواي وهيلين كيلر وجون ريد وغيرهم، وهكذا. وكان للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات حضور بين هذه اللوحات، التي حملت واحدة منها اسمه في مكعب منفصل؛ وقد عرف "الختيار" كوبا جيداً، وهي التي تحتضن أيضاً تمثالاً له في أحد شوارعها، وكان له بيت يسكنه هناك، هو اليوم بيت السفير القطري لدى هافانا.
غالبية زائري كوبا هذه الأيام يأسرهم هدف واحد، هو استطلاع الأيام الأخيرة للجزيرة قبل الولوج في الأمركة والعولمة. سينتيا، أستاذة جامعية فرنسية جاءت برفقة زوجها إلى البلاد لتكون شاهدة على تلك الأيام. يبدو أن "الأمركة" المرتقبة لا تروق لها. يقول لها أليخاندرو، الكوبي المتفاخر بنظام بلاده وعداوته التاريخية للإمبريالية: "لن يغيرونا، سيأتون إلينا زائرين، ينفقون دولاراتهم عندنا، يدخنون السيغار، يحتسون الرام، ويعودون من حيث أتوا، أكثر من ذلك لن يحصلوا على شيء".
اقرأ أيضاً: تحديات التطبيع الأميركي ــ الكوبي: حقوق الإنسان وإرضاء الجالية