أوروبا البعيدة عن سورية

24 أكتوبر 2015

ميركل بعيدة عن مشاورات فيينا بشأن سورية (23 أكتوبر/2015/Getty)

+ الخط -
تريد أوروبا أن تكون جزءاً من الحلّ السوري، إذا كان هناك من حلّ قريب. لا تريد البقاء على هامش الأحداث المتلاحقة. تعتبر القارة العجوز أن "من حقّها" المُطالبة بالمشاركة في أي مشاورات أو مباحثات، لا أن تستضيفها فقط كما حصل، أمس الجمعة، في العاصمة النمساوية فيينا. كان صعباً على المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، متابعة مجريات الحراك الروسي ـ الأميركي ـ التركي ـ السعودي، على الأراضي النمساوية، من دون أن تكون طرفاً أساسياً ومشاركاً.
بالنسبة إلى أوروبا التي تتحمّل الجزء الأكبر من اللجوء السوري، تبدو مهامها وكأنها مقتصرة على محاولة معالجة ملف اللاجئين، بطريقة تقنية واقتصادية فقط، مع ما يعنيه ذلك من نموّ للخلافات السياسية والاجتماعية، واستحضار ماضي الأحزاب اليمينية والنازية. باتت مسألة أوروبا مع الأزمة الاقتصادية اليونانية "شيئاً من الماضي" في أشهرٍ قليلة فقط. تدفّق اللاجئين جعل القارة أسيرة أكبر موجة زحف بشريّ في تاريخها.
لماذا باتت أوروبا خارج أي نقاش؟ وحتى لو شاركت فيه، لماذا تظهر وكأنها "الطرف التقني" أو "الطرف المنفّذ"، أو حتى "الطرف الكورس" لأي اتفاق؟ يعود السبب إلى ثابتين زمنيين. الأول متعلّق بالتدخّل العسكري الأميركي في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، والذي سمح لدول أوروبا الغربية في إمالة الكفة لصالحها ضد ألمانيا، وكسبها الحرب بوجهها. الثاني مماثل، ومتعلق أيضاً بالتدخّل العسكري الأميركي في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، والذي سمح بانتصار المحور الغربي على ألمانيا النازية، بموازاة صعود نجم الاتحاد السوفييتي، قطباً عالمياً ثانياً.
عاملا الحربين العالميتين ساهما بتراجع أوروبا من "قوة عسكرية" صالت وجالت، في قرون ما بعد عصر النهضة، إلى "قوة اقتصادية" أقرب إلى "فاتيكان" الزمن المعاصر. وفي العرف العالمي، عكس مبادئ الأمم المتحدة، وفي سياق "السياسة الواقعية"، كل من لا يملك القوة، لا يملك القرار. وإذا كان الأوروبيون قد راهنوا على "قوتهم الاقتصادية"، إلا أنها تبدو في مسارٍ دقيق، بفعل تنامي مختلف القوى الاقتصادية الأخرى من جهة، وإلى فعل القوة الذي مارسته روسيا عليهم، عبر تضييقها الخناق على أنابيب الغاز الروسية التي تموّل المصانع الأوروبية.
ومن العوامل التي تضع القارة العجوز في وضعٍ صعبٍ، عدم قدرتها على تجاوز خلافاتها الإثنية والعرقية والدينية والثقافية واللغوية، خصوصاً أن العامل الاقتصادي لم يطمس خلافات التاريخ الغابر، عكس ما هو مُشاع. ويسمح هذا في إبقاء جذوة التوتّر حاضرة في كل لحظة تاريخية. والدليل أن دول اسكندنافيا، الرائدة في التقدّم الإنساني، بدأت تطوي تاريخها عبر توجّه سكانها وناخبيها إلى الأحزاب اليمينية، "خوفاً" من موجات اللجوء.
وتحاول ألمانيا، مع ما تُمثله أوروبياً، إنقاذ الوضع الأوروبي، وتجلّى ذلك بإشارة ميركل إلى أن "الحلّ السياسي في سورية بعيد". وهو منطق يُراد منه التذكير بالدور الأوروبي، على قاعدة الارتباط الجغرافي بين شرق البحر الأبيض المتوسط والسواحل الأوروبية. لم يسمع أحد حتى الآن التعليق الأوروبي. ولعلّ ذلك سيكون من أسباب اعتماد حلّ، قد يكون جزء منه على حساب الأوروبيين، تحديداً بما يتعلّق بملف اللاجئين والمهاجرين.
تظهر أوروبا كأنها إنسان عاش خلف قناعٍ أكثر من نصف قرن، قبل أن يأتي من يكشفه، ويكشف حقيقة مؤلمة، تفيد بأن القارة التي تفتخر بمصالحاتها، تحديداً بين ألمانيا وفرنسا، وتعتزّ بثقافتها الفكرية، وبنموّها الاقتصادي، هي القارة عينها، التي تعاني من مشكلاتٍ لا تنتهي في البلقان، وتحارب عنصرية متفرقة بين حنايا بلدانها. والأهم أنها القارة عينها التي لن تجد مكاناً لها على أي طاولة مباحثات متعلقة بالملف السوري، ما لم تكن مدفوعة أو مدعومة من الأميركي، تكريساً لثابتتي الحربين العالميتين، الأولى والثانية.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".