بعد حوالي سنتين من شغور المنصب، فجأة تعيّن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب سفيراً لها في الرياض، هو جون أبي زيد، تبع ذلك صدور لائحة اتهام عن المدعي العام السعودي في جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، ضد مجموعة من الصف الثاني من المسؤولين الأمنيين السعوديين.
في الوقت نفسه ترافقت مطالبة مسؤول في البيت الأبيض، لذوي الثقل في المنطقة (ضمناً السعودية) بالتحرك نحو نسج علاقة مباشرة "حان وقتها" مع إسرائيل، مع إشارات وتلميحات عن عزم ترامب على الكشف عن "صفقة القرن" في غضون أيام أو أسابيع قليلة. واكب ذلك من الجانب الإسرائيلي انسحاب وزير الأمن أفيغدور ليبرمان من حكومة بنيامين نتنياهو، بما يمهد لانتخابات مبكرة.
لأول وهلة يبدو هذا التزامن صدفة، لكن ظروف وتقاطع هذه التطورات والإشارات، تشي بوجود ترابط في ما بينها، فإدارة ترامب بتعيين السفير بدت عازمة على ترميم العلاقات مع المملكة لتعويم ولي العهد محمد بن سلمان، على أن يقابلها إقدام الرياض على خطوة تاريخية بحجم فتح الطريق لعلاقات مباشرة مع إسرائيل، تثير ما يكفي من الدخان لطمس جريمة قتل جمال خاشقجي، ولتمرير مشروع ما يسمى "صفقة القرن" التي تتوسلها الإدارة كـ"إنجاز خارق" يحول الأنظار وإن مؤقتاً عن أزماتها.
خطوة تعيين السفير لم تكن عادية في هذا الظرف، إذ هناك دول أخرى، مثل تركيا وكوريا الجنوبية، ما زالت بدون سفير أميركي. كان المفترض أن يُترك هذا المنصب شاغراً كتعبير اعتراضي على جريمة خاشقجي، ريثما يتم الكشف عن كامل تفاصيلها ومحاسبة مرتكبيها ومن أمر بها، ناهيك عن تسليم الرفات.
لكن ما حصل، وبهذه السرعة، يعكس اكتفاء الإدارة بلائحة الاتهام ضد منفذي الجريمة، مع ما تنطوي عليه من تجاهل للرأس المدبر ومحاسبته.
بعد يومين من التعيين، دعا جيسون غرينبلات، مساعد جاريد كوشنر مستشار الرئيس الأميركي، والمشرف على الملف الفلسطيني– الإسرائيلي، إلى إسقاط لاءات قمة الخرطوم الثلاث، والانتقال من مرحلة "ذوبان الجليد" المتبلورة في الاتصالات الخليجية الإسرائيلية الخجولة إلى الجلوس معاً "كما جلس السفيران الإماراتي والإسرائيلي في واشنطن على طاولة واحدة بدون أي شعور بعدم الراحة"، في مؤتمر إحدى المنظمات الصهيونية الأميركية مؤخراً.
وبعدما أفاض في شرح "فضائل" التلاقي المباشر، في مقال نشرته صحيفة "يسرائيل هيوم"، في عددها الصادر أمس الخميس، كرر الدعوة إلى "الابتعاد عن السياسات القديمة.. لأنه حان وقت التغيير"، معرباً عن عميق ارتياحه لـ"رؤية بعض القادة العرب الذين يتحلون بالجرأة اللازمة لتحقيق هذا التغيير"، كما قال.
دعوته بهذه الصورة لم تكن معزولة عما تسرّب حول قرب ترجمة ترامب لوعده بالإفصاح عن مضمون "صفقة القرن" قبل نهاية السنة. وربط مراقبون بين زيارة غرينبلات، قبل أيام، إلى إسرائيل، وبين هذه التسريبات التي تمهد لمشروع سلطت مقالته الأضواء على أهم جانب فيه.
ومع ذلك، أي مع هذا الثمن الذي طالب به غرينبلات، واستعداد المعنيين به من العرب لدفعه، نقلت مصادر مقربة من إسرائيل بأنها "غير مرتاحة" لما علمت به عن الصفقة من خلال غرينبلات، وهذا ما يفسر انسحاب ليبرمان من الحكومة، وليس تهاون بنيامين نتنياهو في اتفاق وقف النار مع غزة، كما زعم وزير الدفاع المستقيل.
وربما كان ذلك بالتواطؤ مع نتنياهو نفسه، الذي لا يطيق تصور أي صيغة مهما كانت هزيلة لاستقلال الفلسطينيين، فالاستقالة تشتري الوقت لانتخابات، يكون بعدها لكل حادث حديث.
حتى صفقة ترامب– كوشنر المتوقع أن تكون على قياسات إسرائيل وشروطها، لا ترضي حكومة نتنياهو، بل لا ترضي إسرائيل، لمجرد قبولها رسمياً بطرف فلسطيني، وبما يضمر الإقرار بحقه في دولة مستقلة، وهذا موقف قديم جرى التعبير عنه بطرق مختلفة ضمنت نسف عملية السلام.
في مذكراته "رسائل إلى الرئيس (اللبناني الأسبق إلياس) سركيس"، يذكر غسان تويني أنه عندما كان سفيراً للبنان في الأمم المتحدة بين أواخر السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، جمعته جلسة ضمت الدبلوماسي الأميركي فيليب حبيب، والوزير الأسبق هنري كيسنجر.
وخلال الحديث عن الشرق الأوسط، قال كيسنجر إن "إسرائيل لن تقبل بدولة فلسطينية لا في زمن بيغن ولا في زمن غيره، لأن ذلك يكون بداية نهايتها".
وكانت هذه قناعة كيسنجر نفسه، والتي نصح بها إسرائيل. قاعدة ما زالت سارية حتى الآن، ليس فقط ضد دولة فلسطينية، بل أيضاً ضد أي مشروع يشتم منه أنه قد يؤدي إلى دولة.