عدا الغناء، من جملة ما اشتهرت به أم كلثوم أنها صاحبة نكتة، لم توفّر أحداً مهما بلغ شأنه من سخريتها الذكية، نكاتها طاولت أنور السادات حتى بعدما أصبح رئيساً للجمهورية.
فرضت أم كلثوم عبقريتها الصوتية في العهد الملكي، كما في العهود اللاحقة. لم تكن سخريتها مجانية، بل كانت انتقادات تصيب هدفها في الصميم. وإذا كان عبد الناصر قد أعاد الاعتبار لها وتوّجها على عرش الغناء وأسبغ حمايته عليها، فاعترافاً منه بقدراتها.
بعد انتصار الثورة، اجتاح الضباط المناصب المدنية الرفيعة في الدولة واستأثروا بها. إحدى النكات التي أطلقتها أم كلثوم، نصيحتها للآباء الحريصين على مستقبل أبنائهم، السعي إلى الالتحاق بالكلية الحربية، ففي تخرجهم ضباطاً ما يتيح لهم اختيار أي عمل يصادف هواهم، مدير شركة مؤممة، مهندس، طبيب جراح، قاض، ممثل... وإذا كانت لديه نوازع سياسية أو أدبية، فرئيس تحرير مجلة أو صحيفة. وجاء من أضاف إلى النكتة أن حفلاً أقيم لانتخاب ملكة جمال، فكان الفائز ضابطاً!
خلع الضباط ملابسهم العسكرية وآثروا عليها البدلة والكرافته. لم يأت التنكيت عليهم من فراغ. بعدما احتلوا مناصب، لم يكونوا أهلاً لها، تحت راية ثورة يوليو الاشتراكية. اعتبروا البلد ملكية حصرية لهم، منافعها عائدة إليهم.
كانت لهم الأولوية للاستيلاء على أي منصب إدارياً كان أو اقتصادياً، سياسياً أو ثقافياً. اعتبروا من "أهل الثقة" على حساب "أهل الخبرة". كانت البرجوازية المصرية مغضوباً عليها ومطرودة، حلّت محلّها برجوازية الضباط الفجة، وانتهازيو كل زمان، لم يفلح الضباط، فاز الانتهازيون.
تكرّس هذا الأنموذج الشائع، وأصبح القاعدة، عزّزه لحسن الحظ استثناء فريد مثّله ثروت عكاشة، أحد الضباط الأحرار المشاركين في الثورة، الذي احتلّ عدة مناصب مدنية، أشهرها وزارة الثقافة. مع الوقت أثبت الضابط الوزير أنه أكبر من المنصب، لا لسبب عسكري، وإنما لثقافته الواسعة، وربما في وصفه بالوزير المثقف تقليل من شأنه، كان راهباً في محراب المعرفة.
قدّم للمكتبة العربية جهداً يفوق الهوى والهواية إلى العشق الدؤوب، بإعداده موسوعة ضخمة تحت عنوان "العين تسمع والأذن ترى" في تاريخ الفن تمتد من العصر الفرعوني إلى الإغريقي والروماني، الفارسي والإسلامي وعصر النهضة... وترجم كلاسيكيات الأدب، وأعمال جبران خليل جبران، وعشرات الكتب في مختلف المجالات.
ثروت عكاشة مثقف أخطأ طريقه إلى الجيش. المصادفة السعيدة، أن هذا الخطأ كان نعمة على الأدب والفكر والفن، وأعلامها الكبار، توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ولويس عوض وحسين فوزي... وحفظ لمصر وجهها التنويري، وعلى الرغم من محاولاته إنقاذ ما يمكن إنقاذه، تعرّض الكثير من المثقفين للقمع في المعتقلات.
هل يمكن الاعتماد على مصادفة سعيدة أخرى، تنقذ شيئاً ما في زمن عودة الانقلابات؟ التاريخ لا يكرّر نفسه، إلا وكان مهزلة، والعاقبة لا أقل من فاجعة تفوق ما سبقها بمراحل.