إنّ الثورة...
هل يصحّ أن نبدأ مقالة بقهقهة؟ أجل، هذي هاهاها فاقعة صارخة مدوّية طويلة، تفقع رعدًا في وجوه أولئك الذين لا يخجلون ممّا آلت إليه أحوالُ اللبنانيّ المغلوب على أمره. هاهاها هادرة في وجوههم القبيحة الغبية، إذ لم يعد مجديا الحديث بغير هذا، عند التطرّق إلى ممارساتهم في الأوضاع الكارثية فائقة الوصف، والتي أوصلتنا إليها هذه السلطة الفاسدة المهلهلة التي ترنّ بفراغٍ وغباءٍ مخيفين.
مساء السبت 1 أغسطس/ آب، وبمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الجيش اللبناني، نظّمت جمعية "لبنانيّ وأفتخر" حفلا في منطقة نهر الكلب، بعنوان "كرمالك يا وطن" (من أجلك يا وطن)، أحيته مجموعة من الفنانين بحضور ورعاية قائد الجيش، العماد جوزف عون. وعندما غنّى الكورس أغنية "يا بيروت" التي كتبها الشاعر نزار قباني وغنتها ماجدة الرومي، فعلت رقابةٌ ما فعلَها فتمّ استبدال جملة "إن الثورة تولد من رحم الأحزان" بدندنةٍ لا لا لا لا، فكان أن اشتعلت وسائل الاتصال الاجتماعي بآلاف التعليقات التي هاجمت وسخرت وندّدت، في حين كان يمكن للجملة إياها والأغنية أن تمرّا بكل سلام.
عملٌ سخيف كهذا تبرّأ الجيشُ منه على ما قيل، يعبّر أفضلَ تعبيرٍ عن غباء هذه الحكومة وجبنها، بل هو قد يكون، إلى جانب سخفه وهزاله، أمرا يذكّر اللبنانيين أن ثورتهم لم تمت بالفعل، أنها في كبوة، ولن تلبث أن تستيقظ، نظرا إلى تدهور الانهيار نفسه، أو أنها على الأقل ما يتوقّعه أهلُ السلطة في البلاد. أجل، خوفُ السلطة واقعيّ. وإن جاءت وسائل احتمائها ودفاعها غبية، فلأنها مدركةٌ أن الساعة آتيةٌ لا محالة، إذ لا يمكن لأي كائناتٍ حيّةٍ أن تحتمل ما يلاقيه اللبنانيون على يدها من ذلّ وهوان.. آلاف التعليقات وردت على هاشتاغ "إن الثورة تولد من رحم الأحزان"، مؤكّدةً استمرار الثورة وضرورة الاقتصاص من الذين ما زالوا يتقاسمون ما تبقى من جثّة البلاد. "إن الثورة، لا لا لا لا... لا تموت"!
يحبّ اللبنانيون على وجه الإجمال جيشَهم، ويكنّون له التقدير. يريدونه حاميا للوطن ووحدته، ويعتبرونه آخرَ الثوابت التي يقوم عليها لبنان. قلّما أحب شعبٌ عربيّ جيشَه إلى هذا الحدّ، وشعر بتماهٍ معه، بقدر ما يفعل اللبنانيُّ. لحمة غريبة نشأت أو ازدادت على أثر الحرب الأهلية وانقسام الجيش في حينه وسيطرة المليشيات المتقاتلة، وربما أيضا لأنّ عناصر الجيش معظمهم من فقراء القرى. لذا، ترى رغبة اللبناني بأن تكون له دولة قوية، وقد تحوّلت عاطفة واحتراما لمؤسسة الجيش. وقد راح كثرٌ من اللبنانيين يراجعون تاريخهم، ويمجّدون عهدَ الرئيس الراحل، اللواء فؤاد شهاب، الذي لم يكن محبوبا كثيرا في حينه. وعلى الرغم من استخدام السلطة الجيش في قمع المتظاهرين والناشطين، في مناسبات عدة، فلم يزل الشعب اللبناني ينادي الجندي "يا وطن"، لأن الجيش والوطن في وجدانه واحد.
انقسم الناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي بشأن من عساه يكون مرتكب حماقة حذف الجملة من الأغنية، فيما كانت الأقنية اللبنانية مجتمعةً تبثّ الحفل تكريما للجيش. وحدها قناة المنار كانت منشغلة بأمور أخرى، تبثُّ برنامجا اعتياديا، وكأنها مقيمةٌ في بلاد لا نعرف موقعها، هي التي فرضت على اللبنانيين المعادلة الثلاثية "الشعب، الجيش، والمقاومة". فها إنّ الشعب جالس في بيته مفلسا ومحجورا ومخنوقا يتفرّج على الحفل الذي ينقله التلفاز، والجيشَ حاله مثل حال الناس قابع في ثكناته، وهو شبعان بالكاد، بعد أن قررت إدارته التوقّف عن تقديم اللحم. أما المقاومة، فلسنا نعلم الكثير عن أحوالها، أو عما كان يشغلها مساء ذلك السبت.