ربما لم تُصبِح الحياة الخاصّةُ ضرورةً إلّا من رغبة الإنسان في التعبير عن عواطفه في اللحظات الحميمة؛ كالاعتراف بالحب. لكن ليست بهذه البساطة، طالما من الممكن أن ينتحي الرجل جانباً بمحبوبته ويعبّر لها عن مشاعره، فالخصوصية لا تقتصر على العواطف مهما كانت حسّاسة، هناك أمور تضارعها حساسيةً، ما تني تتّسع من عصر لآخر، وأحياناً من يوم لآخر، حتى أصبحت الحياة الخاصة أشبه بالستار الحديدي يرغب البشر في الاختباء وراءه.
ثمّة تفسيرات كثيرة لهذه المتغيّرات التي لا يُستغنى عنها؛ صنعتها الظروف التاريخية الدينية والسياسية والأخلاقية، وما أدّت إليه من ظهور الجمهوريات، والثورات، والمؤسّسات الحديثة، ومفاهيم مثل الديمقراطية، والليبرالية، وماذا تعنيه التسلية والرفاهية... إلخ.
من هذه الظروف والمفاهيم جرى اختراع الحياة الخاصة، تحت تأثير إحساس الإنسان بكينونته وطموحاته وإخفاء أسراره. ولقد كان للنبالة دورها، شكّلت إرهاصات ملموسة للحياة الخاصة، فإحساس النبيل بأنه يتفرّد بشخصية مغايرة عن غيره، وعدم الانجراف مع القطيع والسعي إلى التميّز عنهم، مع أنه سيُدرك أنه مثل الآخرين، عندما سيعرف أن الحياة الخاصة ليست لطبقة دون أخرى، ومثلما هي حقّه، هي حقّ للآخرين أيضاً. ففي عالم ما قبل الثورة الصناعية، لم توجد حياة خاصة، كانت الحياة عامّة دائماً، الملك يأكل وربما يتغوّط أمام الملأ، وفي مخدعه ليلاً خادمٌ معصمُه مربوط بمعصم الملك بحبل يصل بينهما، والملكة تلد في حضور جمهور ينشد ولياً للعهد يرث المملكة، يهزّه فيستيقظ الخادم، يأمره الملك بجلب كأس من الماء، أو بإناء التبول.
ما من أحد كان بوسعه أن يكون في خلوة، كما هو اليوم شأن كلّ رجل وامرأة، يعيشان في مسكنهما الصغير ويوصدان الباب وراءهما، بل وأصبحت هناك أنماط للحياة الخاصة، محصّنة في غرف النوم للأفراد، وسامقة في الأبراج العاجية للمفكّرين والفلاسفة، يستمطرون فيها الإلهام، أو في تلك المطارح السرية لممارسة الموبقات وتصنيع الممنوعات وتصديرها إلى بلدان العالم، تقوم على حمايتها مافيات عالمية. إنها الحياة الخاصة بما لها وما عليها.
وبقدر ما أصبحت الخصوصية مُصانةً في العصر الحديث، تحوّلت الحياة الخاصة إلى أيقونة التحضّر في العالم، ومن شدّة التحفّظ عليها جرت حمايتها بالدستور، واعتُبر العبث بها جريمة يُعاقِب عليها القانون، ومنح صاحبها الحقّ في الدفاع عنها بالسلاح، لمجرّد اقتحام أحدهم ممتلكاته، ما يشكّل تعدياً على خصوصيته، فتمتّع البشر بنعمة أسبغها التقدّم عليهم، كانت من صناعتهم ووليدة حاجاتهم.
بيد أنه من غرائب الأمور، كما يعتقد البعض، أنه لم تُختَرق خصوصيتهم قدر ما اختُرقت في هذا العصر، بعدما أصبح ما يتكلّم به في خلوته، ولو كان همساً، هناك من يتلقّفه مسموعاً بوضوح، فأجهزة التنصّت باتت من الدقّة بحيث لا تخفي حتى أنفاسه ووجيب صدره، فما بالنا بالتلصّص على أحاديثه الهاتفية ومراسلاته، واستنساخ حتى تلك التي أتلفها. إضافةً إلى التقاط صور له حتى في أكثر أوضاعه حميمية، بل وتصوير فيلم صوت وصورة عن تحرّكاته في منزله، وملاحقته من مكان لآخر، ومعرفة من قابل وودّع، وما تناوله من طعام ومشروبات.
بلغ العبث أنّ الإنسان بات عارياً تماماً إزاء جبروت التقدّم، فالخصوصية لا تتراجع بقدر ما تنمحي. وقد يُعتقد بأنّ إنسان كوكبنا الذي اخترعها قد انتزعتها منه مخلوقات حطّت من الفضاء الخارجي سيطرت على كوكب الأرض، فلم تعد لحياته حصانة، وباتت نهباً لأجهزة، لم يعد بالنسبة إليها أكثر من مادّة للمراقبة والتهديد والتجريم.
لكن بدلاً من توقّع غزو من كوكب آخر، الأقرب إلى الواقع النظر حولنا، هناك في بعض البلدان أخ أكبر، ليس تحت تأثير رواية أورويل "1984"، بل من مخلفات النازية والفاشية والستالينية، أخ طالع من أجهزة المخابرات، يستعد لاستغلال هذا التقدّم وتجييره للتحكّم في البشر، وفي طريقه للتحكّم في المنطقة، وربما بالعالم. هذا ما يحصل للعلم عندما يتحوّل من نعمة إلى نقمة، ويؤجّر أنوار العقل الإنساني إلى ظلمات طموحات معتوهة.
* روائي من سورية