من جديد، كانت فرنسا، ليل الخميس-الجمعة، على موعد مع اعتداء إرهابي، ضرب هذه المرة مدينة نيس في يوم الجمهورية، متسبباً في سقوط 84 قتيلاً وسط توقعات بارتفاع عدد الضحايا جراء وجود ما لا يقل عن 50 مصاباً بعضهم في حالة خطرة في المستشفيات. وبينما يحاول الفرنسيون الخروج من صدمة توالي الاعتداءات التي يتعرضون لها وهم يستمعون إلى المسؤولين الفرنسيين الذين يتوعدون بتصعيد الحرب ضد الإرهاب، والتأكيد على أن البلاد في حالة حرب مع ما يستدعيه هذا الوضع من تمديد حالة الطوارئ ورفع الاستنفار إلى أقصى الدرجات، فإن تساؤلات عدة عادت لتظهر على غرار كل اعتداء، تتركز حول أسباب استمرار الإخفاق الأمني في المعركة ضد الإرهاب.
وكان اعتداء نيس مختلفاً ولا سيما لجهة الأسلوب، بعدما اختار المنفذ استخدام شاحنة كبيرة دهس خلالها المتواجدين في الساحة وهو ما يفسر سقوط الأعداد الكبيرة من الضحايا، ويُشكّل تنفيذاً عملياً للمرة الأولى لحرب الشوارع التي كانت أجهزة أمنية أميركية حذرت من أن تلجأ التنظيمات الإرهابية إليها. وجاء وصف وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف للاعتداء بـ"أننا في حالة حرب مع إرهابيين يريدون ضربنا بأي ثمن وبشكل عنيف للغاية"، ليُبرز حالة الخوف التي عمّت فرنسا بعد الاعتداء، ليقابلها إعلان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند تمديد حالة الطوارئ في البلاد 3 أشهر إضافية، واستدعاء احتياط الجيش من المواطنين لتعزيز صفوف الشرطة والدرك. كما شدد هولاند على أن "ما من شيء سيجعلنا نتخلى عن عزمنا على مكافحة الإرهاب، وسوف نعزز أكثر تحركاتنا في سورية كما في العراق"، مضيفاً في خطاب متلفز: "أولئك الذين يستهدفوننا على أرضنا سنواصل ضربهم في ملاجئهم".
ولم تكن الأوساط الاستخباراتية الفرنسية تستبعد سيناريو الرعب الدموي الذي عكسه اعتداء نيس. ولم تسقط من حساباتها احتمال استعمال سيارة أو شاحنة من الحجم الكبير في دهس عشوائي للحشود بهدف إلحاق أكبر حجم من الخسائر البشرية. انطلاقاً من ذلك، تم اتخاذ تدابير ردع قرب التجمعات الكبرى، خلال كأس البطولة الأوروبية لكرة القدم 2016، وسباق الدرجات الهوائية، الذي يجري في فرنسا حالياً. لكن، في المقابل، كانت الأجهزة الأمنية مدركة أيضاً لاستحالة تفادي سيناريو من هذا النوع في كل المدن الفرنسية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة. فالشاحنات متوفرة لكل من يشاء. ويستحيل على الأجهزة الأمنية أن تراقب مئات الآلاف من الشاحنات التي تسير على الطرق الفرنسية. وكانت السلطات الأمنية في مدينة نيس، حسب تقرير لصحيفة "لوموند"، تدربت في الأشهر الأخيرة على عدة سيناريوهات إرهابية.
وشملت التدريبات كيفية التعامل مع اعتداء بالأسلحة الرشاشة على تجمعات بشرية أو في حال تم العثور على قنابل مزروعة في وسائل النقل ومحطات القطارات. وسبق أن عُقد في مقر وزارة الداخلية الفرنسية اجتماع بين مسؤولي منطقة نيس ووزير الداخلية، تناول الإجراءات الأمنية التي يجب اتخاذها في منطقة نيس، أثناء مهرجان كان السينمائي الدولي، ومباريات البطولة الأوروبية لكرة القدم وعدة مهرجانات موسيقية. لكن هذا الاجتماع لم يضع، على ما يبدو، في الحسبان سيناريو شاحنة تجارية ضخمة تدهس الحشود المجتمعة في قلب المدينة خلال احتفالات العيد الوطني.
في إطار ردود الفعل، علت أصوات طارحةً علامات استفهام عدة حول ظروف وقوع الاعتداء. وتساءل رئيس إقليم "رونا آلب-نيس"، رئيس بلدية نيس السابق، كريستيان استروزي، عن كيفية دخول الشاحنة إلى كورنيش "منتزه الإنكليز" بهذه السهولة، وعدم اتخاذ احتياطات أمنية كافية وحواجز لإغلاق الطرق المؤدية إلى هذا الكورنيش، الذي يبلغ طوله حوالي خمسة كيلومترات، ويزدحم بمئات الآلاف من المحتفلين بالألعاب النارية. هذا الاتهام بالتقصير، في هذه المسألة بالذات، وجد آذاناً صاغية لدى المنتقدين لأداء القوى الأمنية الفرنسية.
كما أن اعتداء نيس وهوية منفذه يفرضان أيضاً إشكالية عسيرة على خبراء مكافحة الإرهاب الفرنسيين. فالاعتداءات الإرهابية السابقة كان منفذوها في غالبيتهم الساحقة، إن لم يكن كلهم، معروفين بشكل أو بآخر لدى الأجهزة الأمنية والمحققين المكلفين بقضايا الإرهاب. وكان بعضهم متورطاً في قضايا إرهاب سابقة وخاضعاً للمراقبة. أما منفذ اعتداء نيس، محمد لحويجي بوهلال، المهاجر تونسي المقيم في فرنسا، فكان مجهولاً بشكل كليّ لدى الأجهزة الاستخبارتية، الداخلية والخارجية.
بيد أن تحليل هاتف منفذ العملية والتحقيق في محيطه العائلي والتفتيش الدقيق لمحتويات بيته، كلها خطوات قد تمكن الأجهزة من تحديد ما إذا كان الرجل منخرطاً بشكل سري في خلية جهادية منظمة أو أنه قرر بشكل منفرد القيام بهذه العملية الإرهابية المعزولة، تحت تأثير الدعاية التي ينظمها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). تجدر الإشارة إلى أن المتحدث باسم "دولة الخلافة الإسلامية"، أبو محمد العدناني، كان نشر رسالة صوتية في 22 مايو/أيار 2014، دعا فيها إلى مواجهة من أسماهم بـ"الصليبيين" بكل الوسائل الممكنة، لا سيما بـ"الحجر والأسلحة البيضاء والدهس بالسيارات".
ويؤدي هذا الواقع إلى صعوبة تفادي عمليات الدهس أو أي عملية أخرى تنفذ بوسائل "منزلية" غير متطورة من قبل أفراد عاديين لا شبهة أمنية تحوم حولهم. والجدير ذكره أن عملية من هذا النوع قد تلهم أشخاصاً آخرين، ما يطرح احتمال انتشار "العدوى" بشكل سريع. هكذا تتحول الحرب الفرنسية ضد الإرهاب في الداخل إلى مواجهة مع أشباح وليس فقط مواجهة مع بضع مئات من الأشخاص المتطرفين، الذين يمكن لمراقبتهم من جانب الأجهزة الأمنية أن تتيح تفادي انتقالهم من الفكر المتطرف إلى العنف الجهادي.
وفي انتظار تدابير أمنية أكثر فعالية في مواجهة هؤلاء "الانتحاريين الأشباح"، من الواضح أن هذا النوع من العمليات حقق جزءاً كبيراً من أهدافه، وصار يبث الرعب والهلع في كل مكان.