الأسطورة
مصادفةً وقعت على فيلم مصري للأطفال، يتناول قصة مكرّرة كتلك القصص التي تتسم بالوعظ المباشر بقالب طفولي، وعلى الرغم من ركاكة السيناريو وسذاجته، إلا أن الرسالة كانت واضحة، وهي أن الشعب المقهور الذي رمز له المؤلف بمجموعةٍ من حيوانات مزرعة صغيرة، ينتظر بطلاً وهمياً لينقذه من جور الضباع وسطوتهم، لأن هذه الحيوانات على كثرتها "دجاج وأرانب وكلاب" كانت أضعف من أن تدافع عن نفسها، أو تنقذ صغارها وهم جيل المستقبل.
قضية البحث عن البطل أو المنقذ أو ما يسمى "الأسطورة" في الأعمال الدرامية، سواء في السينما أو التلفزيون، وتقديمها للكبار والصغار، هي منفذ درامي للتعبير عما يجول بالعقل الباطن لدى المؤلفين، وقد بدت قصة البطل الوهمي الخارق الذي ابتدعه الفلكلور الشعبي على مر العصور، مثل البريطاني روبن هود، والذي كان يسرق من الأغنياء، ليوزع ما يسرقه على الفقراء، وجبةً وهميةً، تقدم للجمهور عبر الفنون، والنموذج العربي لروبن هود تلك الفئة الخارجة عن القانون، والمطلوبة للعدالة" الصعاليك" التي صوّرها صناع الدراما بأنها فئة الأبطال التي تصل في الوقت المناسب لإنقاذ الفقراء، ولكي يمنح المؤلف روايته حيوية يحبك قصة حبٍّ بين فتاة القرية أو "بنت الحتة" مع أحد المطاردين، وتصل المبالغة إلى ذروتها حين تقع ابنة العمدة أو مأمور القسم في غرامه.
سار مؤلف مسلسل "الأسطورة" على الثيمة نفسها، حين جعل من أحد الخارجين على القانون بطلاً شعبياً، يهتف باسمه الفقراء والمهمشون، ويقلده الشباب في المناطق الشعبية، في مشيته وحركاته وطريقة قص شعره ولحيته وشاربه، واستطاع أن يستقطب المتابعين في المقاهي التي اعتادت استقبال هذا الجمهور، لمتابعة مباريات كرة القدم، بل وقف هذا الجمهور البسيط لتلقي التعازي عند وفاة توأم البطل في الحلقات الأولى من المسلسل. وبسبب فوضى الشارع المصري وغياب الأمن، قامت سيدة مصرية من حلوان بتقليد البطل المغوار، حيث ادّعت أن أحدهم يتحرّش بها في غياب زوجها، فأرغمته على ارتداء " قميص نوم أحمر"، والخروج به إلى الشارع وسط زفةٍ وهتافٍ من أهل الحي، وذلك تقليداً لموقف قام به البطل ناصر الدسوقي في المسلسل.
أثلجت صدري نهاية هذه "الأسطورة" التي أصبحت أفيوناً للشارع المصري، وشغف بها المشاهد العربي، وهي وفاة هذه الأسطورة. وبذلك، لعل المؤلف محمد عبد المعطي أراد أن ينقذ الناس من أوهامهم، وربما تدارك نفسه، وأشفق على أبناء بلده من العيش على أملٍ زائف، ولا يقدم حلاً للمشكلات التي تعيشها الشعوب التي لا تفكر بالقيام بثورةٍ، حتى ضد غلاء الأسعار، كما حدث في الأرجنتين، فالطبقات المسحوقة، على الرغم من أنها الغالبية في التعداد السكاني في مصر، إلا أن انتظار البطل المنقذ أصبح هو الأمل الخادع بالنسبة لجيل الشباب على وجه الخصوص، والذي قدم نموذجاً سيئاً، فلا وجه للمقارنة بين "ناصر الدسوقي" وقادة التاريخ الإسلامي، على سبيل المثال.
ناصر الدسوقي أسطورة الشعب المصري الحالي، بضخامة جسمه وعضلاته المفتولة، واستخدامه جميع أنواع الأسلحة، مثل المطاوي والأسلحة النارية، وتلفظه بالألفاظ النابية، وسيلة من وسائل العنف الجسدي للتعامل مع الضحايا، أو حتى المجرمين، وتعاطيه المخدرات والتفاخر باستخدامها بأنها "تعدل المزاج" هو النموذج السيئ الذي سيزيد من نسبة العنف والانحلال في المجتمع المصري الذي تعتبر المحاكاة طبعه الأول. ولأن الدراما العربية أصبحت "ديوان العرب الجديد"، ومنها يتلقى المجتمع القيم والأفكار، ولأن من يتابعها هم من البسطاء، أمثال صاحب أحد المقاهي الشعبية الذي أقام سرادق عزاء، بعد وفاه الأسطورة ناصر الدسوقي في المسلسل (!).
إذن، لا بد أن يركّز صناع الدراما على القيم والأخلاق، وربطها بالعقل المجتمعي الذي لم يحقق تطوراً ملحوظاً حتى الآن، وكان الأجدر بمبتدع الأسطورة ألا يبقي الناس الغلابة في حالة حدادٍ على أسطورتهم، حتى الموسم الرمضاني المقبل.