11 نوفمبر 2024
الأمن التونسي بين قيم الجمهورية والحصانة
على الرغم من الثورة التي حدثت في تونس والخطوات المهمة المقطوعة في مسار التحول الديمقراطي، ظلت صورة الأمنيين لدى الرأي العام ملتبسة ومعقدة وغير قارة، خصوصا مع تواصل تجاوزاتٍ تذكّرهم بالعهد السابق، حيث كان الأمن ذراعا للاستبداد.
علينا أن نستحضر اختفاء آلاف الأمنيين أيام الثورة، حيث انسحبوا لأسباب ما زال بعضها غامضا، وظل بعض آخر محل تخميناتٍ، في ظل غياب معطياتٍ ترجح هذا الرأي أو نقيضه. فربما كان بعضهم يخشى من عواقب ذلك الانفلات، في ظل مخاوف محتملة من اندلاع أعمال انتقامية، يعمد إليها ضحايا التجاوزات التي قام بها أمنيون في حق مواطنين عاديين أو مناضلين حقوقيين أو سياسيين أو نقابيين، حين كانت آلة القمع تلقي بأوامرها عليهم فتستجاب. ولكن لم يحدث من ذلك شيء، ما يؤكد انتشار قيم الوسطية والمدنية في المجتمع التونسي، بل آثر الضحايا أن يتركوا جانباً مشاعر الآثار والحقد، ويلجأوا إلى العدالة، بصيغها المتعدّدة التي تنوعت، على غرار العدالة الانتقالية أو التقاضي.. إلخ، وما زالت بعض القضايا جارية، على الرغم من اهتزاز الثقة إلى حد ما. وقد تتالت عمليات تبرئة قيادات أمنية عديدة "تورّطت" في قضايا عديدة، تعلقت بضحايا الثورة والتعذيب. كما أن عديدين من هؤلاء ما زالوا أحرارا طلقاء، على الرغم من صدور أحكام في حقهم، خصوصا أن مسار المصالحة السياسية والتوافق بين "الشيخين" (الرئيس الباجي قائد السبسي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي) ساهم في طي تلك الصفحة، ولو على حساب أركان العدالة الانتقالية التي نص عليها القانون، والتي تستوجب معرفة الحقيقة والمحاسبة.. إلخ.
تعطلت مشاريع إصلاح الجهاز الأمني، وتوافدت على تونس لجان ومراكز دولية مختصة في
إصلاح الأجهزة الأمنية، حتى تتلاءم مع مقتضيات التحول الديموقراطي الذي تمر به البلاد، ومولت بعضها المبادرات. ولكن يبدو أن المنجز كان ضعيفا، وهو لا يكاد يذكر. ولم يشعر المواطن التونسي أن علاقته برجل الأمن تغيرت، وشهدت البلاد عدة تجاوزات، تحدثت عنها منظمات وطنية ودولية، على غرار التعذيب والاعتداءات غير المبرّرة على متظاهرين أو مواطنين عاديين. قد لا يكون الأمر ممنهجا على نحو ما عهدناه سابقا، ولكن لا ينفي ذلك تكرار هذه الاعتداءات، وبشكل سافر. وقد يكون تأسيس النقابات الأمنية المتعدّدة والمتنافسة قد ساهم في تعميق حالة العطالة تلك، فلا الأجهزة قبلت الإصلاح، ولا هي غيرت سلوكها من تلقاء نفسها، وبشكل صريح، ممارساتها وعقيدتها بشكلٍ يتطابق مع متطلبات الأمن الجمهوري.
لا ينفي كل ما سبق الاعتراف بأن الأمنيين قدّموا تضحيات جساما في معركة البلاد التي تخوضها ضد الإرهاب. ولكن سيظل هذا في النهاية واجبا مقدسا يرفعهم إلى مرتبة الشهداء التي شرّف بها أيضا العسكريين، وأطيافا أخرى من أبناء الوطن الذين خاضوا من مواقع
مختلفة المعركة نفسها. ولا يزيل هذا الاعتراف بما قدمته المؤسسة الأمنية للبلاد من جليل التضحيات حقيقة الشك المتنامي في أوساط حقوقية عديدة، وحتى سياسية ومدنية، في أن ثمّة نياتٍ تحرص على استغلال هذه التضحيات، وتجييرها لفائدة عودة القبضة الأمنية وإطلاق يد الأمن على كامل المجتمع. بل هناك خشية حقيقية أن تكون هذه ذريعة لجني مزيدٍ من المكاسب التي قد تمنح الأمنيين شبه حصانة، خصوصا أن المشاريع المقدّمة لمجلس النواب تشي بمثل هذه الرغبة التي تمنح لهم ولأفراد عائلاتهم حصانة أبدية وإفلاتا من أي شكل من المحاسبة، حتى لو ارتكبوا تجاوزات. أمهلت النقابات الأمنية مجلس النواب أياما، حتى يصادق على مشروع القانون المذكور (زجر الاعتداءات على الأمنيين)، وهدّدت بالقيام بحركات تصعيدية، وبسحب الحماية الأمنية من الزعامات السياسية، بل اقتحمت يوم عرض القانون مجلس النواب، في تحدٍّ سافر لحرمة المجلس، ووضع المشرع تحت التهديد.
يخشى نشطاء عديدون في حقوق الإنسان أن تستغل أطرافٌ سياسية جريمة اغتيال الرائد رياض بروطة على يد الإرهاب الغادرة قبل أسبوعين (كان يؤمّن حركة المرور) للعودة بالبلاد إلى مربع الاستبداد، لسنّ قوانين تنقلب على المكسب الوحيد الذي تحقق للبلاد بعد الثورة، وهو الحرية. في ظل ضعف الحكومة، وتغوّل قطاعات بعينها، مستندة إلى لوبيات ومواقع نفوذ يخشى بعضهم أن تسن تحت الضغط والتهديد قوانين تمنح للأمنيين حصانةً مطلقة، لن تعصف بالحريات فقط، بل بمشروع الانتقال الديموقراطي برمته. لن يكون ذلك مستبعدا، على الرغم من المعارضة التي أدتها إلى الآن أحزابٌ وجمعياتٌ ترى أن الحريات ومدنية الدولة مهدّدة. جديد الدراسات التي صدرت عن مؤسسات ومراكز بحثية غربية متشائمة، وترى أن البلاد قد تنزاح نحو مربع الاستبداد مجدّدا. الأمن الجمهوري الذي يتطلع إليه الشعب التونسي يحمي الأمنيين من التجاوزات، لكنه أيضا يظل دعامة لدولة القانون والحريات. ولا يحتاج هذا الأمر إلى قوانين تمنح الأمنيين حصانةً أبدية، بل يحتاج أيضا إصلاحا عميقا في العقيدة الأمنية وممارساتها.
علينا أن نستحضر اختفاء آلاف الأمنيين أيام الثورة، حيث انسحبوا لأسباب ما زال بعضها غامضا، وظل بعض آخر محل تخميناتٍ، في ظل غياب معطياتٍ ترجح هذا الرأي أو نقيضه. فربما كان بعضهم يخشى من عواقب ذلك الانفلات، في ظل مخاوف محتملة من اندلاع أعمال انتقامية، يعمد إليها ضحايا التجاوزات التي قام بها أمنيون في حق مواطنين عاديين أو مناضلين حقوقيين أو سياسيين أو نقابيين، حين كانت آلة القمع تلقي بأوامرها عليهم فتستجاب. ولكن لم يحدث من ذلك شيء، ما يؤكد انتشار قيم الوسطية والمدنية في المجتمع التونسي، بل آثر الضحايا أن يتركوا جانباً مشاعر الآثار والحقد، ويلجأوا إلى العدالة، بصيغها المتعدّدة التي تنوعت، على غرار العدالة الانتقالية أو التقاضي.. إلخ، وما زالت بعض القضايا جارية، على الرغم من اهتزاز الثقة إلى حد ما. وقد تتالت عمليات تبرئة قيادات أمنية عديدة "تورّطت" في قضايا عديدة، تعلقت بضحايا الثورة والتعذيب. كما أن عديدين من هؤلاء ما زالوا أحرارا طلقاء، على الرغم من صدور أحكام في حقهم، خصوصا أن مسار المصالحة السياسية والتوافق بين "الشيخين" (الرئيس الباجي قائد السبسي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي) ساهم في طي تلك الصفحة، ولو على حساب أركان العدالة الانتقالية التي نص عليها القانون، والتي تستوجب معرفة الحقيقة والمحاسبة.. إلخ.
تعطلت مشاريع إصلاح الجهاز الأمني، وتوافدت على تونس لجان ومراكز دولية مختصة في
لا ينفي كل ما سبق الاعتراف بأن الأمنيين قدّموا تضحيات جساما في معركة البلاد التي تخوضها ضد الإرهاب. ولكن سيظل هذا في النهاية واجبا مقدسا يرفعهم إلى مرتبة الشهداء التي شرّف بها أيضا العسكريين، وأطيافا أخرى من أبناء الوطن الذين خاضوا من مواقع
يخشى نشطاء عديدون في حقوق الإنسان أن تستغل أطرافٌ سياسية جريمة اغتيال الرائد رياض بروطة على يد الإرهاب الغادرة قبل أسبوعين (كان يؤمّن حركة المرور) للعودة بالبلاد إلى مربع الاستبداد، لسنّ قوانين تنقلب على المكسب الوحيد الذي تحقق للبلاد بعد الثورة، وهو الحرية. في ظل ضعف الحكومة، وتغوّل قطاعات بعينها، مستندة إلى لوبيات ومواقع نفوذ يخشى بعضهم أن تسن تحت الضغط والتهديد قوانين تمنح للأمنيين حصانةً مطلقة، لن تعصف بالحريات فقط، بل بمشروع الانتقال الديموقراطي برمته. لن يكون ذلك مستبعدا، على الرغم من المعارضة التي أدتها إلى الآن أحزابٌ وجمعياتٌ ترى أن الحريات ومدنية الدولة مهدّدة. جديد الدراسات التي صدرت عن مؤسسات ومراكز بحثية غربية متشائمة، وترى أن البلاد قد تنزاح نحو مربع الاستبداد مجدّدا. الأمن الجمهوري الذي يتطلع إليه الشعب التونسي يحمي الأمنيين من التجاوزات، لكنه أيضا يظل دعامة لدولة القانون والحريات. ولا يحتاج هذا الأمر إلى قوانين تمنح الأمنيين حصانةً أبدية، بل يحتاج أيضا إصلاحا عميقا في العقيدة الأمنية وممارساتها.