08 نوفمبر 2024
الإبداع ومعاطف القضايا
في نقاشٍ مع بعض الأصدقاء حصل قبل أيام، قال صديقٌ إن جزءا مهما من انتشار بعض الكتاب العرب عالميا تقف خلفه أسبابٌ لها علاقة بالسياسة بشكل من الأشكال، فمثلا لولا أن محمود درويش كان محمولا على قضيةٍ كبيرةٍ وعظيمةٍ، وهي قضية فلسطين، لما تحققت له هذه الشهرة التي لا يوازيه فيها من الشعراء العرب دوليا وعالميا سوى أدونيس، والذي لا يمكن تبرئة شهرته، أيضا، من أسبابٍ سياسيةٍ أو متعلقة بالسياسة بشكلٍ ما، فهو، منذ زمن، يقدّم خطابا يأتي على هوى الرؤية الغربية نحو البلاد العربية والإسلامية، من حيث اعتباره خطابا تنويريا، يتهم الإسلام بالتخلف، خصوصا ما يتعلق به بوضع المرأة وحقوقها عامة. لم يبتعد نجيب محفوظ ولا محمد شكري ولا آخرون كثيرون عن هذا الأمر، حتى الروائيون العرب الذين يكتبون بلغاتٍ أجنبية، كأمين معلوف ورفيق الشامي، على سبيل المثال، ثمّة طرفٌ سياسيٌّ خلف شهرتهم، أيضا ليست تلك الأسباب سياسية مباشرة، قدر ما هي الكتابة عن العالم العربي برؤيةٍ قريبةٍ من الاستشراق أو الاستشراق المعكوس، وهي رؤية سياسية مثلما هي ثقافية واجتماعية.
ولكن، لماذا لم يشتهر وينتشر آخرون من الكتاب الذين كانوا محمولين على القضايا نفسها، عالميا وحتى عربيا؟ لماذا اختفت أسماء كتاب كثيرين، بعد أن خفت وهج القضايا التي كانوا يتصدّون لها في كتاباتهم، أين أصبح الآن كتاب الإيديولوجيات التي سادت العالم في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي؟ وأظن الأمثلة على ذلك أكثر بكثير من ذكرها في مقال، وهي معروفة، على الأقل، لدى المهتمين بالثقافة والإبداع، يقينا، ما أعطى قيمة للأسماء التي خرجت من معطف الإيديولوجيا والقضايا الكبرى، لكنها استمرت مع الزمن وانتشرت واشتهرت، هو الإبداع بحد ذاته، الإبداع الحقيقي الذي سار جنبا إلى جنب مع الموقف السياسي أو التنويري أو الاجتماعي، وهو ما ينطبق أيضا على كتاب أميركا اللاتينية الذين عبروا بجنسياتهم نحو العالمية، مثلهم أيضا بعض كتاب اليابان والصين وأوروبا الشرقية، وكلها بلادٌ عانت ما عانته من الثورات والحروب أو الاحتلالات أو المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لا يمكن بأي حال في أثناء الحديث عن الأدب العالمي، وكتابه وترجماته، التغاضي عن دور المؤسسات الأوروبية الثقافية في تعويم بعض الأسماء الأدبية غير المحلية، وإضفاء وهج العالمية عليها، ولا يمكن أيضا التعامل مع هذا الدور بوصفه بريئا، غايته الإبداع فقط، إذ هناك، كما قال صديقي في نقاشنا قبل أيام، أسباب سياسية واقتصادية تترافق مع السبب الثقافي، وهو ما يظهر حاليا بوضوحٍ شديد وجليٍّ مع حركة اللجوء العربية أخيرا إلى دول أوروبا، حيث رافق حركة اللجوء هذه انتشارٌ مهولٌ لمؤسسات ناشطة ثقافيا ومنظمات ممولة من مجتمعات ومؤسسات أوروبية مانحة، استطاعت بزمن قياسي نسبيا، استقطاب لاجئين كثيرين وجدوا منابر مفتوحة أمامهم، وكل ما عليهم أن يفعلوه أن يكتبوا شعرا ونثرا وقصصا ويوميات وروايات، شرط أن تتحدّث عن الحرب الأهلية والإرهاب والثورة بالبلاد التي جاءوا منها، وعن مشكلات اللجوء وأزمات الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة، وإن كان هذا الأمر إيجابيا من ناحية أن الكتابة حق للجميع، ولا يمكن بحال أن تقتصر على فئة معينة (النخبة)، وأنها إحدى طرائق الاندماج مع الحياة الجديدة في المجتمعات الجديدة، فإن ثمّة ما يجب الانتباه له جيدا، وهو أن الثورات العربية انتهت بطريقة مأساوية وكارثية، عادت الأنظمة نفسها لتسيطر بشكل أعنف على المجتمعات، بعد أن قضت وتقضي على معارضيها بالموت أو الاعتقال الطويل أو الإعدام أو النفي، وبدأ ملف الإرهاب يسحب شيئا فشيئا من التداول العالمي، بعد أن انتهى دوره، وسيتم تثبيت الوضع العربي على ما هو عليه على ما يبدو.
وبالتالي، سوف ينتهي تمويل هذه المؤسسات الثقافية التي دعمت عشرات بل مئات ممن وجدوا أنهم يستحقون لقب الكاتب أو المبدع، ستتوقف هذه المؤسسات قريبا عن العمل بانتظار مأساة أخرى تصيب شعوبا أخرى، من سيبقى من هؤلاء الكتاب العرب المدعومون من هذه المؤسسات، وماذا سيكون مصيرهم؟ بكل تأكيد، من سيكمل هو المبدع الحقيقي الذي يتجاوز إبداعه القضايا الآنية، ويرتفع بإبداعه وحده بعيدا عن حوامل القضايا الأخرى. أما مصير من يتكئ على ما تطلبه هذه المؤسسات فهو النسيان، شأنه شأن كثيرين ممن لم يبق منهم ما يذكّر بهم.
ولكن، لماذا لم يشتهر وينتشر آخرون من الكتاب الذين كانوا محمولين على القضايا نفسها، عالميا وحتى عربيا؟ لماذا اختفت أسماء كتاب كثيرين، بعد أن خفت وهج القضايا التي كانوا يتصدّون لها في كتاباتهم، أين أصبح الآن كتاب الإيديولوجيات التي سادت العالم في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي؟ وأظن الأمثلة على ذلك أكثر بكثير من ذكرها في مقال، وهي معروفة، على الأقل، لدى المهتمين بالثقافة والإبداع، يقينا، ما أعطى قيمة للأسماء التي خرجت من معطف الإيديولوجيا والقضايا الكبرى، لكنها استمرت مع الزمن وانتشرت واشتهرت، هو الإبداع بحد ذاته، الإبداع الحقيقي الذي سار جنبا إلى جنب مع الموقف السياسي أو التنويري أو الاجتماعي، وهو ما ينطبق أيضا على كتاب أميركا اللاتينية الذين عبروا بجنسياتهم نحو العالمية، مثلهم أيضا بعض كتاب اليابان والصين وأوروبا الشرقية، وكلها بلادٌ عانت ما عانته من الثورات والحروب أو الاحتلالات أو المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لا يمكن بأي حال في أثناء الحديث عن الأدب العالمي، وكتابه وترجماته، التغاضي عن دور المؤسسات الأوروبية الثقافية في تعويم بعض الأسماء الأدبية غير المحلية، وإضفاء وهج العالمية عليها، ولا يمكن أيضا التعامل مع هذا الدور بوصفه بريئا، غايته الإبداع فقط، إذ هناك، كما قال صديقي في نقاشنا قبل أيام، أسباب سياسية واقتصادية تترافق مع السبب الثقافي، وهو ما يظهر حاليا بوضوحٍ شديد وجليٍّ مع حركة اللجوء العربية أخيرا إلى دول أوروبا، حيث رافق حركة اللجوء هذه انتشارٌ مهولٌ لمؤسسات ناشطة ثقافيا ومنظمات ممولة من مجتمعات ومؤسسات أوروبية مانحة، استطاعت بزمن قياسي نسبيا، استقطاب لاجئين كثيرين وجدوا منابر مفتوحة أمامهم، وكل ما عليهم أن يفعلوه أن يكتبوا شعرا ونثرا وقصصا ويوميات وروايات، شرط أن تتحدّث عن الحرب الأهلية والإرهاب والثورة بالبلاد التي جاءوا منها، وعن مشكلات اللجوء وأزمات الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة، وإن كان هذا الأمر إيجابيا من ناحية أن الكتابة حق للجميع، ولا يمكن بحال أن تقتصر على فئة معينة (النخبة)، وأنها إحدى طرائق الاندماج مع الحياة الجديدة في المجتمعات الجديدة، فإن ثمّة ما يجب الانتباه له جيدا، وهو أن الثورات العربية انتهت بطريقة مأساوية وكارثية، عادت الأنظمة نفسها لتسيطر بشكل أعنف على المجتمعات، بعد أن قضت وتقضي على معارضيها بالموت أو الاعتقال الطويل أو الإعدام أو النفي، وبدأ ملف الإرهاب يسحب شيئا فشيئا من التداول العالمي، بعد أن انتهى دوره، وسيتم تثبيت الوضع العربي على ما هو عليه على ما يبدو.
وبالتالي، سوف ينتهي تمويل هذه المؤسسات الثقافية التي دعمت عشرات بل مئات ممن وجدوا أنهم يستحقون لقب الكاتب أو المبدع، ستتوقف هذه المؤسسات قريبا عن العمل بانتظار مأساة أخرى تصيب شعوبا أخرى، من سيبقى من هؤلاء الكتاب العرب المدعومون من هذه المؤسسات، وماذا سيكون مصيرهم؟ بكل تأكيد، من سيكمل هو المبدع الحقيقي الذي يتجاوز إبداعه القضايا الآنية، ويرتفع بإبداعه وحده بعيدا عن حوامل القضايا الأخرى. أما مصير من يتكئ على ما تطلبه هذه المؤسسات فهو النسيان، شأنه شأن كثيرين ممن لم يبق منهم ما يذكّر بهم.