يختلق العالم معضلاته المستعصية، بعضها يبدو، كأنما لا حل له، بعدما أصبحت مزمنة، كالمسألة العنصرية، فالكراهية التي تحكم العلاقة بين الأسود والأبيض، ما زالت قائمة على الرغم من تراجعها بعد اعتراف البيض بالذنب تجاه السود، فأقترح ألا يحق للبيض الكلام عمّا أورثته العبودية من عذابات، كانوا سبباً فيها، وأن يدَعوا السود يتكلّمون عن مأساتهم، ولو كان فيها النيل من البيض بإبراز جرائمهم الوحشية.
كذلك لا يحق للرجال الكلام عن قضية المرأة، لأنها مشكلة لا تخصهم، إلّا من حيث الرضوخ لمطالبات النساء، ما يسمح لهن عدا التمتع بحقوقهن، الثأر من تاريخ طويل، كنّ فيه الطرف المغلوب على أمره، وربما تطويع الرجل ودفعه إلى التخلّي عن مكانته، والاعتراف بأن تسلّطه كان سبباً في خراب العالم.
في حال انتقلنا إلى بلداننا، واتّبعنا الخطوات نفسها، فأكثر من معضلة راهنة سنواجهها، يتجلّى حلّها في ترك الأديان لأصحابها، وتولّي كل جماعة الرد على ما يؤذي مشاعرها، ما يعني عدم استئثار أي مذهب بما يُعتبر رداً في منتهى العنف على ما يشكل إهانة لمذهبه، فيقتلون ويذبحون ويعلّقون المشانق، ويقطعون الرؤوس، في النزاع بينهم، والاتهام بالكفر في خلافات لم يطوها التاريخ.
بذلك يصبح لأصحاب المذاهب المختلفة، من سنّة وعلويّين وشيعة ودروز وإسماعيليين وغيرهم، الحقّ في انتقاد مذهبهم، دونما التعدّي على المذهب الآخر، بموجب الأسباب نفسها: لأنهم الأولى والأدرى به. بذلك نضع حدوداً بين الأديان والمذاهب، تمنع الصدام جرّاء تفسيرات غير مسؤولة لا تراعي الحساسيات بينها.
وبالتالي، لا يحق انتقاد زعم بعض السنّة أن مذهبهم هو الصحيح، وإخراج باقي المذاهب من الملّة، ووصمها بالضلال والكفر، وتطبيق الحدود على معتنقيها. كما لا يحقّ انتقاد العلويين والشكوى من غموض عقائدهم أو التستّر عليها، ولا استغراب نوازع الثأر الشيعي لقتلة الحسين، وجهودهم في تحويل العالم الإسلامي إلى التشيّع. ففي منع التعرّض لأي دين أو مذهب، ما يمنع الفتنة، وربما الحرب، فالمساس بها مهما بلغ من الحذر، سيُعتَبر إهانة، والأغلب الردّ عليها بشن حملة مضادّة.
الإحساس بالإهانة، يتعمّد تصيُّد المعنى ونقيضه، وما يوحي به أيضاً، بموجبها يُحسب حساب أية كلمة نتفوّه بها، لئلا نسيء إلى الطرف الآخر، والاحتياط بأن نكون رقباء أيضاً على ما يجول في أذهاننا من تساؤلات.
هذه الإجراءات تؤدّي إلى خطر جهل المجتمع بأفراده. في حين يتطلّب التعايش بينهم، انفتاح بعضهم على بعضهم الآخر، ليتعرّف هؤلاء على كيف ينظر إليهم أولئك وبالعكس، وإلا أصبح الإنسان الذي يسكن إلى جوارنا "الآخرَ" الذي يحل لنا القضاء عليه.
لا يمكن إجراء تفاهم مجتمعي إلا من خلال الحرية نفسها، وإدراك أن كلّاً منا ليس الغريب، المجهول النوايا، وربما العدو، إن لم نتقارب إلى حد تلاشي فكرة الآخر.