الاستعمار يخلع نظارتيه
لعل من أهم التجلياتِ لقيمة المواجهة المباشرة مع الاحتلال أنها تعيد العلاقة مع الاحتلال/ الاستعمار إلى صورتها الأوضح، وتدفع بالتناقض البسيط المباشر إلى الواجهة، بعد أن تستر خلف شبكة تكتيكاتٍ وممارساتٍ، تبدو بعيدة عن علاقة مستعمِر ومستعمَر، محتَل ومحتل، بصورها البسيطة المجردة التي يدركها المقهورون بالبداهة.
خلال السنوات الماضية، حاولت إسرائيل التنويع في سياساتها ضد الفلسطينيين، أو حيالهم، وسعت جاهدةً إلى إقامة شرخ عمودي في المجتمع الفلسطيني، وفق اعتبارات أمنية، وقسّمت المجتمع إلى فئات عديدة، وفق نظامٍ يراعي درجة الخطورة المتحققة، أو المحتملة، لدى أي فلسطيني، وفرزت الفلسطينيين مناطقياً وعائلياً وحزبياً، ووضعتهم على سلّم المعايير الأمنية فرداً فرداً.
كانت نتيجة جهود الفرز والتصنيف تلك ظهور آلياتٍ لتركيز العنف على فئة من الفلسطينيين، فئة مواجهي إسرائيل. ففي حين كانت تُنسف بيوت متهمين بعمليات ضد الاحتلال، وتشرّد عوائلهم، ويلاحق أفرادها، كان فلسطينيون آخرون يحصلون على بطاقاتٍ، تمكنّهم من عبور أي حاجز عسكري، من دون التفات إلى مئاتٍ من إخوتهم، الواقفين في طوابير التفتيش والتنكيل الطويلة. وفي حين كانت عوائل الأسرى تنتظر ساعات عند المعابر الإسرائيلية، في طريق زيارة أبنائها في السجون، كان فلسطينيون آخرون يمرون مسرعين، ومن المعابر نفسها، قاصدين المتاجر الإسرائيلية للتبضع، وبتصريح وترحيب من الاحتلال. وفي الوقت الذي كان فيه الحصار مطبقاً على قريةٍ تواجه الاحتلال يومياً، كانت الحواجز تختفي في مناطق أخرى، بل ويتودد الجنود وعناصر الشرطة الإسرائيلية مع فلسطيني، لمجرد كونه من منطقة هادئة.
كل ذلك جرى بدأبٍ وعناية، لإحداثِ شرخٍ في المجتمع وفهمه للعلاقة مع الاحتلال، ولتكريس حالة أقلية فلسطينية، يتركز عليها التنكيل الإسرائيلي، وفي الوقت عينه، لتجنب مواجهة مع المجتمع بكليته، تلك المواجهة التي خبرها الاحتلال في الانتفاضة الأولى، فالتنكيل الجماعي يفرز، بالبداهة، مواجهة جماعية، ويوسّع هامش المشاركة الجماهيرية فيها.
ومع هذا كله، كانت إسرائيل تحاول إقامة نموذجين متقابلين، غزة والضفة، غزة محاصرة مضيّق عليها منكّل بها، مقابل ضفة تعيش "متنعمة" ببعض تسهيلات، وشكلٍ من الإدارة الناعمة ووعود الرخاء الاقتصادي. وذلك ببساطة، وفق محدد الهدوء والاستقرار الأمني، وتعاون السلطة القائمة، في الحالتين، مع الاحتلال. كانت هذه السياسة العامة تثبت نجاعة إلى حدٍ بعيد، وتدفع للبحث والتأمل في نجاحات الاحتلال في إدارة المستعمَرين، وفقَ مستوى عالٍ من التركيب والتعقيد، بلغ حداً يجعلُ فلسطينياً ينظر لشاطئ تل أبيب هدفاً لصاروخه، في حين ينظر فلسطيني آخر، للشاطئ عينه، مساحةَ استجمام وترفيه. إلا أن المواجهة الأخيرة في غزة، وما قبلها وما بعدها، بل مجرد عملية واحدة ضد الاحتلال، أربكت العين الاستعمارية في رؤيتها للمستعمَرين، رغم كل ما أنجزت من خطط في مسار إدارة المستعمرين وإقامة التناقضات بينهم.
يمكن النظر إلى المواجهة، اليوم، كحدث يدفع العين الاستعمارية لنزع نظارة الضبط والإدارة، والتحكم أو التدجين، فتنظر العين المجردة إلى المستعمَر، نظرتها الأولى الأوضح، كخطر وعدو، كموضوع للإبادة والنفي، لا موضوع إدارة وتشكيل.
ولعل هذا ما قد يختصر الكثير من شرح حالة النموذج الاستعماري الصهيوني، فهو نموذج يعود دوماً إلى صورته الأولى، بما هو مشروع إبادة ونفي. ويعود، اليوم، في الضفة إلى حقيبة سياساته القديمة، ليمارس تنكيلاً وإذلالاً جماعياً، عبر المداهمات المستمرة، والاعتقالات العشوائية، ومنع آلاف من السفر إلى الخارج، وإعاقة التنقل والحركة، وغيرها من أشكال الاستهداف الجماعي، المتناقضة مع ما راكمه من سياسات في السنوات الأخيرة، من إدارة ناعمة ناجعة في الضفة. وليس غريباً هنا أن تحمل الفترة المقبلة جهداً أمنياً مضاعفاً من السلطة الفلسطينية، فمشروع إدارة المستعمَرين لا مواجهتهم، هو مشروعها، أو على الأقل هي تجليه الأهم.