لم يلتقط التونسيون بعد أنفاسهم من الانتخابات التشريعية، ولم يجفَّ الحبر الانتخابي من أصابع التونسيين والتونسيات، حتى أطلّت الانتخابات الرئاسية عليهم، لتفرض إيقاعها، وتدعوهم إلى الاستعداد للتوجه من جديد نحو مكاتب الاقتراع.
والواقع أن الانتخابات الرئاسية التونسية قد فرضت نفسها على التونسيين منذ أسابيع، إلى درجة بروز مخاوف حقيقية من التشويش على الانتخابات التشريعية، قد يؤدي إلى تشتيت الذهنية الانتخابية وفقدان التركيز. ولكن ما إن ظهرت نتائج الانتخابات التشريعية، حتى عاد الحديث عن قصر قرطاج بذات القوة والاهتمام، وبأسئلة جديدة فرضتها نتائج الانتخابات.
خلط الأوراق وإعادة التوزيع
الجدل الذي استمر طويلاً عند مناقشة القانون الانتخابي في المجلس التأسيسي، وبعده في أروقة الحوار الوطني حول ترتيب الانتخابات التونسية، لم يكن يُنبئ بتلازم مصير الانتخابات التشريعية والرئاسية إلى هذه الدرجة، على الرغم من أن الأحزاب السياسية كانت تحتفظ بأجندتها وحساباتها الخاصة لهذه المناسبة.
غير أن نتائج الانتخابات التي جاءت "مفاجئة" للبعض، أعادت خلط الأوراق من جديد، وفرضت على الأحزاب إعادة ترتيب أولوياتها، ما سيدفعها إلى صياغة تحالفاتها من جديد على قواعد ثابتة في اللعبة السياسية، أهمها ضمان التوازن في الساحة السياسية، ومنع الاستفراد بالحكم في رؤوسه الثلاثة، وضمان استقلالية السلطات الثلاث.
ويطرح تصدر حزب "نداء تونس" نتائج الانتخابات التشريعية جملة من الأسئلة التي لن يُسمح للأحزاب بتفاديها أو الالتفاف عليها، وسيستوجب على الجميع أن يواجهها بشجاعة وجرأة، لعل البعض لا يبالغ حين يصفها بالمصيرية.
ويُعتبر حصول الحزب على زهاء 37 في المائة من الأصوات، حسب آخر التوقعات، أغلبية واضحة ولكنها ليست مريحة على الإطلاق، وسيفرض عليه بالضرورة ترتيب تحالفات داخل المجلس التشريعي، تقود إلى تشكيل حكومة جديدة يمكن أن تحظى بمصادقة المجلس وتيسير مهامه. وهو ما سيقود ضمنياً إلى تفاهمات وتوافقات على تشاركية للمناصب الثلاثة تضمن "عدم تغوّل النداء" في المشهد.
"النهضة" بيت القصيد مرة أخرى
يبدو حزب "نداء تونس"، بعيداً عن ساحة الاحتفال بالانتصار، في وضعية لا يُحسد عليها. فتبوؤه للمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية، يفرض عليه إطلاق المبادرة السياسية وإدارة مفاوضات الائتلاف المعقّدة في ضوء النتائج الحاصلة، وسيكون مطروحاً عليه بالضرورة، بحسب بعض المتابعين، إما التحالف مع حركة "النهضة"، أو مع غيرها من "المجموعات الصغيرة المتناثرة"، لتشكيل توازن سياسي وطني يكون الجميع فيه على قدر من الطمأنينة والراحة السياسية، التي تضمن لكل طرف على مدى خمس سنوات عدم تلقي طعنات من الخلف.
وسيقود تحالف "النداء" مع "النهضة"، إلى عدم تفريط الأخيرة بمرشح ضامن للتوازن الثلاثي، في حين سيدفعها التحالف مع غيرها إلى بذل الغالي والنفيس لدعم مرشح تطمئن إليه من غير "النداء".
وفي كل الحالات، سيكون على "النهضة" في الأيام القليلة المقبلة، أن تحسم أمرها وتتبيّن المشهد القادم بوضوح وبسرعة، وأن تنتهي من سبر نوايا "النداء" في خصوص كل هذه القضايا لتتمكن من صياغة موقف نهائي وواضح. ولا يبدو "النداء" نفسه غير معني بهذا الطرح، فاستئثاره بقصر باردو (النواب) والقصبة (الحكومة) وقرطاج (الرئاسة)، يعني انتحاراً سياسياً بحكم عدم تمتّعه بالأغلبية المطلقة من جهة، ونظرا لتقلّب مزاج الساحة السياسية التونسية الذي فرضته فسيفساء الأحزاب وتناثر القوى. كما أنه من جانب آخر سيتم النظر إليه من طرف قطاع واسع من التونسيين على أنه عودة لحكم الحزب الواحد، الذي قامت ضده الثورة.
مليونا ناخب في الميزان
لا يبدو النقاش العام الدائر هذه الأيام في تونس مهتماً بمليوني غائب عن الانتخابات التشريعية، لم يدلوا بأصواتهم يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، لأسباب مختلفة، على الرغم من أنهم أكدوا تسجيلهم شخصياً في سجلات الناخبين. وهذا يعني أنهم مهتمون بالتصويت من جهة، ولكنهم غير شغوفين بالانتخابات التشريعية من جهة أخرى.
كما أن هذا الأمر لا يعني أن الاستحقاق الرئاسي لا يهمهم أيضاً، بل على العكس من ذلك، لأن الانتخابات الرئاسية عكست منذ أسابيع شغفاً شعبياً حقيقياً بها وبمرشحيها، ما يعني أن عدد المقترعين في 23 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل سيكون أكبر بكثير من ناخبي الأحد الماضي، وهو ما يمكن أن يقود إلى نتائج مختلفة في ضوء ما تحقق في الانتخابات التشريعية.
وبالتالي، هذا الأمر يستدعي من الأحزاب خطاباً مشجعاً لهذه الفئات، التي يمثّل الشباب غالبيتها القصوى، للالتحاق بصناديق الاقتراع والإدلاء بأصواتهم، وصياغة برامج يمكن أن تدخلهم إلى دائرة الاهتمام.
وعلى عكس نظام الاقتراع على القوائم في التشريعية، سيكون التصويت في الرئاسية على أفراد معينين، ما يلغي تشتت الأصوات ويضمن تركيزها على الشخصية المختارة. وهو عامل مهم ومؤثر في إعادة الحسابات من جديد.
وعاد الجدل من جديد في اليومين الأخيرين حول إمكان فتح باب التسجيل للناخبين مرة أخرى. وعلى الرغم من ضيق الوقت، فقد أفادت بعض المصادر بأن هذه الإمكانية مطروحة بجدية، وبأن هيئة الانتخابات بصدد مناقشتها، ولا سيما مع المشاكل التي حصلت في الخارج في هذا الموضوع وحرمت الكثيرين من الاقتراع.
وتعرف الانتخابات الرئاسية عموماً منحى ذاتياً في اختيار المرشحين وانتخابهم، ما يعني أن مواصفات المرشح نفسه تتدخل في عملية اختيار الناخب حتى قبل البرامج الانتخابية. وهو ما يجعل المتنافسين يتحملون كامل المسؤولية في كيفية تقديم أنفسهم للناخبين، والاستجابة للمعايير الدقيقة التي ينتظرها التونسيون من رئيسهم الجديد.
هذا الأمر قد يدفع كل مرشح إلى توضيح هويته وبرامجه بشكل دقيق للإجابة عن أسئلة التونسيين الذين ينتظرون ثمار ثورتهم على كل المستويات، ما سيقود في الأيام المقبلة إلى بداية وضع "بورتريه" رئاسي لكل مرشح والدفع في اتجاه ترويجه، وسيفتح بالضرورة مجال اللعب على المساوئ والنواقص المختلفة بين جميع المرشحين.