21 يناير 2017
البحر المتوسط... شرخ فاصل أم جسر واصل؟
منذ انتهاء الإمبراطورية الرومانية، انتهى مفهوم الحضارة المتوسطية الواحدة، أو المفهوم القديم للمتوسط "بحرنا"، الذي وضعه الجغرافي اليوناني استرابون، في القرن الأول، بمفهوم العالم المُتمدن، وما زال هذا الشرخ بين جنوب وشمال البحر المتوسط قائماً.
وُجدت، زمن الإمبراطورية الرومانية، أول عولمة بمفهوم وجود دولة واحدة وحضارة واحدة، كل ساكن، مهما كان مولده وأصله، هو مواطن روماني، يحتكم لما تسمى قوانين الجمهورية، دليل ذلك أن خمسةً من أشهر أباطرة الرومان كانوا من أصل سوري، معظمهم من حمص، وبالتحديد: كراكلا، غيتا، إيل جبل، سيفيروس ألكسندر وفيليب العربي، وكذلك سيبتيمس سيفيروس من ليبيا، وماكرينوس من الجزائر، فالآثار التي نجدها في روما، هي نفسها التي نجدها في ليبيا والأردن وسورية وغيرها.
انتهت هذه العولمة الأولى بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، في القرن الرابع، والتي حلت بعدها ببضعة قرون، في جنوب المتوسط وشرقه في ما بعد، الدولة الإسلامية. منذ ذلك الزمن، انتهى مفهوم وحدة البحر المتوسط، وبدل أن يكون بحيرة داخلية رومانية لدولة واحدة، أصبح حاجزاً أو جسراً بين حضارتين: الغربية الآفلة والإسلامية الناشئة. وقد بنيت الحضارة الإسلامية، بعد وصول العرب إلى بلاد الفرس ذات الحضارة العريقة، وهذا ما يُفسر أن جُل العلماء المسلمين، مثل ابن سينا الفارسي، والفارابي من تركستان، والخوارزمي عالم الكيمياء، من أوزبكستان، والبخاري الفارسي، ولغوي العربية الشهير سيبويه وهو من مواليد شيراز. كل هؤلاء من أصول غير عربية. لم يدمّر العرب، في بداية الفتوحات الإسلامية، حضارات من سبقهم، بل على العكس أعطوها إمكانات أكبر للانتشار. من ناحية أخرى، تمكّنت الفتوحات الإسلامية لبلاد الشام من الوصول إلى قبائل تعرف التكلم باللغة اليونانية، وهو ما سهل،
لم يكن النزاع التاريخي بين شمال المتوسط وجنوبه حاجزاً لانتقال الحضارة، فعلى الرغم من الفتوحات الإسلامية، والحروب الصليبية، وطرد المسلمين من الأندلس، فتح الأوروبيون الأبواب على مصراعيها للحضارة العربية والإسلامية، والحضارة اليونانية التي حملها العرب لهم. ففي وقتٍ كان فيه فردينان دارغون يطرد المسلمين من الأندلس، ويدخل آخر معاقلهم في غرناطة، فإنه لم يحرق بل أخذ آلاف الكتب الموجودة في مكتباتها العريقة، ووزّعها على أهم المراكز الأوروبية في ذلك الزمن، وقد بدأت، على الفور، بترجمتها، واضعة بذلك أُسس انتقال الحضارة العربية إلى أوروبا، ووضع أسس النهضة الغربية.
أخذ الفكر العقلاني القادم من الأندلس وعلماء اليونان مكان علم اللاهوت والغيبيات والخزعبلات التي كان يعيش عليها الغرب خلال القرون الوسطى، وأسّست لفكر فلاسفة عظام، أمثال ديكارت وكانت، والذين استقوا من فكر ابن رشد وغيره، من علماء ذلك الزمن.
نرى الشيء نفسه، ولكن في الاتجاه المُعاكس، أي أن الحملة النابليونية على مصر، بعد الثورة الفرنسية (1789)، ترافقت مع تطور الدراسات الشرقية التي قام بها العلماء، في الأوجه كافة، الذين أحضرهم نابليون معه، على الرغم من أن الحملة لم تستمر إلا ثلاث سنوات (1798-1802)، إلا أن محمد علي باشا، اقتبس الفكر الحداثي الغربي، وبدأ حملة واسعة، لإقامة دولة عربية حديثة، لم يُكتب لها النجاح، بسبب توافق السلطان العثماني، والقوى الأوروبية على هزيمته. نرى ذلك أيضاً في تونس، مع الوزير خير الدين الذي وضع أسس الحداثة، وأول دستور لدولة إسلامية سنة 1861، مقتبساً القوانين المدنية الأوروبية.
نرى ذلك مع فكر الإصلاحيين الإسلاميين الذين درسوا في الغرب، أمثال الشاعر الفيلسوف الهندي الباكستاني، محمد إقبال، وكان أستاذاً في ألمانيا وبريطانيا، حتى أنه كان له مدرسة وأتباع غربيون، ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، اللذيْن أسسا لجريدة العروة الوُثقى في باريس، عام 1884، وحتى السلطان عبد الحميد الثاني، والذي وضع قبل انهيار الدولة ببضع سنين، أول دستور للإمبراطورية العثمانية، مع بدء تحديث الدولة، ووضع القوانين المدنية المُقتبسة عن الغرب.
وكان هذا التفاعل الحداثي بين الشرق والغرب، بين شمال المتوسط وجنوبه، جسراً حضارياً، تعدّى بحر الحروب والأطماع.
في كل زمن، نجد حضارة ومركزاً لإشعاعها، ووجود الحروب والنزاعات لا يعني فصل
من هذا المفهوم، نعتقد أن مفهوم كون الحضارة الغربية وُلدت في الغرب، ولا تصلح إلا للغرب، مفهوم خاطئ، فلولا الحضارة الإسلامية، لما وُجدت الحضارة الغربية، ولولا الحضارتان، اليونانية والفارسية، لما وُجدت الحضارة الإسلامية، ولولا وُجود الحضارة الرومانية، لما وصلنا إلى شيء.
الحضارة نهر واسع جارٍ، تصب فيه أنهر صغيرة كثيرة، كل أمة وكل شعب يُساهم فيها وفي تطورها. فقيم حقوق الإنسان، والمساواة بين الناس، والدولة الديمقراطية، هي بعض من قيم حضارة هذا الزمن العالمية، وليست قيماً غربية، وإن وُجدت وترعرعت في الغرب، بعد الثورة الفرنسية.
لا تُترجم خصوصيات الشعوب بحضارة خاصة بها، تعادي الآخرين أو تتناقض معهم، بل بثقافاتٍ خاصة، تُغني الحضارة العالمية الواحدة، فالثقافة العربية هي ما أنتجته الخصوصية العربية، من أدب وشعر وهندسة معمارية وأشياء كثيرة لا تُعد ولا تُحصى، كذلك الثقافة الصينية أو الأفريقية. هذه الاختلافات في الثقافات ضرورية، لبناء عالم متنوع وجميل، يستطيع كل شعبٍ أن يُعبر عن نفسه، ويُغني الثقافات الأخرى، لكنهم كلهم يتفقون على إطار حضاري واحد. العولمة الحديثة لا تعني أن نلتحق بالثقافات الغربية، بل على العكس، يجب الحفاظ على ثقافاتنا ولغتنا وكل خصوصياتنا، والعمل الدؤوب على منع ذوبانها واختفائها، تحت حُجة الحضارة المشتركة.
التمييز بين مفهوم الحضارة، وهي واحدة، ومفهوم الثقافة، وهي متعدّدة، مهم جداً، التراجع الثقافي الذي نراه حالياً في عالمنا العربي، على مستويات عدة (كالفن والأدب وغيره) والإفقار الفكري العام، والابتعاد عن الحضارة والقيم العالية، والتقوقع في أُطر غيبيةٍ دينية، كما فعل الأوروبيون في القرون الوُسطى، قبل وصول الحضارة الإسلامية واليونانية إليهم، هو ما يجب الانتباه إليه، علينا أن نفتح الأبواب والنوافذ كلها، لإدخال الحضارة إلى بلادنا، وإيصال ثقافتنا ومشاركتنا الحضارية، إلى العالم.
الأوضاع العربية الحالية هي نتاج هذا البكاء المستمر على حضارة فقدناها، والحُلم باستعادتها، وكأن نهر الحضارة السائر، باتجاه البحر، يمكن له العودة إلى الخلف. الشعب الياباني، أو الصيني أو الهندي، استطاع بناء دولة قوية ومتطورة، والعمل للانتماء للحضارة الإنسانية الحديثة، من دون أن يفقدوا شيئاً من خصوصياتهم وثقافاتهم، بل، على العكس، أصبحوا من أكبر روافد هذه الحضارة، وقد يُصبحون قريباً، وقبل مُنتصف القرن الواحد والعشرين، مصدرها الأساسي، كما هو الغرب حالياً.
تركيا وإندونيسيا، ودول مسلمة أخرى، في جنوب شرق آسيا، انطلقت بدورها إلى الأمام، وطوّرت التعليم والصناعة، والحكم الرشيد والديمقراطية. لكن الدول العربية تبقى، في الحقيقة، الاستثناء الوحيد في العالم، وليس الدول الإسلامية التي لم تستطع، على الرغم من ثرواتها الريعية الهائلة، وقد يكون بسببها، الالتحاق بالجوقة العالمية. أما الهوة الوحيدة التي تستمر بالاتساع عبر العالم، فهي بين شمال البحر المتوسط وجنوبه، وتقارير الأمم المتحدة، عن التنمية في العالم، تطرق جرس الخطر بتقاريرها السنوية، منذ عام 2002.
نهر الحضارة العالمي جارٍ منذ آلاف السنين، وهو يمر بكل الدول والشعوب والأزمان، ورفض الالتحاق به لن يضر بأحدٍ غيرنا، وسنبقى خارج الحضارة والتاريخ.
أما الحراك الشبابي للربيع العربي، فقد جاء لتصحيح هذه الخصوصية، عندما رفع عالياً قيما حضارية، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد، وعليه العمل بدأب من أجل التخلص من كل قوى التقوقع والأثقال السياسية والاجتماعية التي تحاول أن تجرّه إلى الوراء.