08 مارس 2017
معايير الحضارة وحلم فيكتور هوغو
قد يظن بعضهم أن الحضارات تتطوّر فقط بفعل الإنسان فاعلاً مباشراً وحيداً، عن طريق التقدم العلمي أو الاجتماعي، وغيره من الأنشطة الإنسانية النبيلة، لكن الحقيقة أن هذه الأنشطة نتاج للفعل الحضاري، وليست سببا له. أسباب الحضارة أو شروطها حددها المؤرخون، وخصوصاً من اهتم منهم بالتاريخ الشامل، أو ما يُسمى التاريخ طويل الأمد، والذي وضعت اُسسه في النصف الأول من القرن العشرين.
لم توضع هذه الشروط اعتباطياً، وإنما بعد دراسات تاريخية موثقة، عن كيفية نشوء الحضارات وانتهائها، والأمم والإمبراطوريات، وأول من اهتم بالأمر ابن خلدون، في القرن الرابع عشر الميلادي.
وليست مثل هذه الأبحاث والتحليلات التاريخية وُجهات نظر المؤرخين، وإنما حقائق علمية، ثبت بالدراسة تكرارها، ما أكّد حقيقتها. يذكر مؤسس التاريخ الشامل، فيرنان بروديل، دارس الحضارات المتوسطية ومرجعيتها، أن نشوء أي حضارة استوجب ثلاثة شروط، وهذا ينطبق على الإمبراطوريتين، الرومانية والإسلامية، وغيرهما. أرض شاسعة واسعة متكاملة ومتناسقة، أناس بعدد كاف يسكنون هذه الأرض ويعملون فيها، تجمعهم قواسم مشتركة، فترة زمنية كافية من السلم، حتى تستطيع شعوب هذه الأرض أن تبني حضارة مشتركة. هذه حقيقة أشياء بسيطة ومنطقية، ولا نحتاج لجهد كبير حتى نُقنع بعضنا بصوابها.
لو أردنا تطبيق هذه الشروط على أوضاعنا العربية، لوجدنا أننا بأيدينا أنهينا كل هذه الشروط، وكأننا لا نريد أن ننتمي لأي حضارة، ولا نريد أن ينشأ عندنا أي مستقبل لأبنائنا. لنا في الوطن العربي أرض شاسعة، متناسقة ومتكاملة، وتحوي ثروات متنوعة، من المعادن والزراعة والماء والشمس والهواء وغيرها، ولكن هذه الأرض قُسمت إلى 22 قطعة، مُحاطة بحدودٍ لا يستطيع حتى الذباب تجاوزها، وكأن هناك من يريد أن يمنعنا من الخروج من الأقفاص التي وُضعنا فيها.
عندنا أيضاً الشعب الكبير العدد، والمتناغم اللغة والعادات، وأغلب الأحيان المُعتقدات، 400
مليون مواطن، لكنهم قُسموا إلى شعوب وقبائل مُتنافرة، لا تستطيع الاتصال بفعل الحدود، بل تتقاتل فيما بينها، داخل أقفاصها الضيقة، لتأكل الفُتات. ولتثبيت هذه الحدود، وهذه الصراعات الداخلية، أوجدنا لأنفسنا حكوماتٍ وسلطاتٍ لا يهمها إلا نفسها، وتتصرّف كأن الوطن الصغير لكل شعب ملكها الخاص، تُغلق عليه كل النوافذ والأبواب. أما الفترة الطويلة للسلم، فلست بحاجة للكتابة عنها، إذ لم ننعم منذ أكثر من قرن بيوم من السلام، فإما حروب بين هذه الدول المشكلة للأمة أو قمع عنيف لحراك جماهيرها، أو قتال مع الجيران، كما الحرب بين العراق وإيران.
تتوفر إذن للأمة كل شروط الحضارة، لكن الأمة نفسها دمرتها بأيديها، وقد نقول أيضاً بسبب الاستعمار وتدخل إسرائيل والقوى الأخرى، لكن هذا ما كان ليحصل، لو حققنا شروط الحضارة فيما بيننا، بدل التقاتل والتجزئة.
حقق الاتحاد الأوروبي الشروط اللازمة لبناء حضارة عريقة، فهناك الأرض الشاسعة، ولو كانت أقل ملاءمة وتكامُلاً من الأرض العربية، وهناك 500 مليون مواطن، ولو كانوا أقل تناغماً وتشابهاً من الشعوب العربية، فهؤلاء يتكلمون لغات عديدة، وينتمون لحضارات مختلفة، لكنهم أمنوا لأنفسهم الشرط الثالث: أكثر من سبعين عاماً من السلام الداخلي الدائم، بعد أن قسمتهم ودمرتهم الحروب العالمية الأولى والثانية وما سبقها، ألف عام قبل تلك الفترة، لم تعرف أوروبا يوماً واحداً من دون حرب. والولايات المتحدة الأميركية أمنت الشروط الثلاثة، من شعب كبير 320 مليونا، على أرض شاسعة وشعوب مختلفة عرقياً ولغوياً، لكنها تعيش بسلام داخلي منذ عشرات السنين. قد نرى الشيء نفسه إزاء الهند أو الصين الحديثة أو إزاء البرازيل.
لن يستطيع العرب بناء حضارة، كل على حدة، وداخل أقفاصهم الصغيرة، حتى لو امتلكوا البترول والذهب والفضة. لن يستطيعوا بناء شيء ذي معنى، إلا إذا جمعوا أرضهم في أرض واحدة، وشعوبهم في أمة واحدة، وأنهوا حروبهم الداخلية العقيمة، وأسسوا للسلم الداخلي، الدائم والطويل، المبني على العدل والمساواة بين الناس، مهما كانت طوائفهم ولغاتهم وأعراقهم.
تُبنى الأوطان المُتحضرة الحضارية بسواعد أبنائها، خصوصاً الذين يُوفرون لها شروط
نجاحها، كما فعل غيرنا على الرغم من حروبهم السابقة، فنحن لنا الأرض الواسعة التي باركها الله، ولنا أمة واحدة كبيرة، ولو اختلفت أديانها وأعراقها ولغاتها، وننتمي لحضارة واحدة، حققت في السابق الشروط الثلاثة، فمتى ستنتهي حروبنا الداخلية وصراعاتنا التي لا تخدم إلا أعداءنا؟
ولنذكّر بالحلم الأوروبي لفيكتور هوغو، مؤلف "البؤساء"، في خطابه أمام مجلس السلم العالمي في باريس، عام 1848، أي قبل أكثر من قرن على بناء الاتحاد، والذي تلته وسبقته حروب ضروس بين بعض دوله. قال الكاتب العالمي، وأمام سُخرية بعض الحضور: "تقولون اليوم وأقول معكم، كلنا هنا نقول لفرنسا وإنجلترا ولبروسيا وللنمسا ولإسبانيا وإيطاليا وروسيا، نقول لهم: سيأتي يوم تسقط فيه الأسلحة من أيديكم، يوم ستبدو فيه الحرب سُخفاً، وستكون مستحيلة بين فرنسا وبريطانيا، وبين سان بطرسبورغ وبرلين، وبين فيينا وتورينو. سيأتي يوم، لا تكون هناك ساحات قتال، وإنما أسواق مفتوحة، للتجارة وعقول تتفتح للأفكار، سيأتي يوم تُستبدل فيه القنابل والرصاص، بالانتخابات وبالاقتراع، بالتحكيم المُحترم لهيئة مُستشارين عُظمى، تكون بالنسبة لأوروبا، مثلما هو البرلمان بالنسبة لإنجلترا والمجلس التشريعي لفرنسا.
من هنا فإن هدف السياسة العظيمة، السياسة الحقة، هو الاعتراف بكل الجنسيات، وإعادة إحياء الوحدة التاريخية بين الأمم، وجمعها كلها في حضارة واحدة، هي حضارة السلام، جماعة حضارية واحدة، تُضرب مثلاً للأمم التي لا تزال بربرية متوحشة، ليكون للعدل الكلمة العليا والأخيرة، التي كانت في الماضي للقوة".
تحقق حُلم فيكتور هوغو، بعد قرن من خطابه، وبعد ملايين القتلى الذين سقطوا في الحروب العالمية بالقرن العشرين. هل نستطيع بأمتنا العربية، أن نوفر علينا هؤلاء القتلى، وهذه السنين الضائعة؟
لم توضع هذه الشروط اعتباطياً، وإنما بعد دراسات تاريخية موثقة، عن كيفية نشوء الحضارات وانتهائها، والأمم والإمبراطوريات، وأول من اهتم بالأمر ابن خلدون، في القرن الرابع عشر الميلادي.
وليست مثل هذه الأبحاث والتحليلات التاريخية وُجهات نظر المؤرخين، وإنما حقائق علمية، ثبت بالدراسة تكرارها، ما أكّد حقيقتها. يذكر مؤسس التاريخ الشامل، فيرنان بروديل، دارس الحضارات المتوسطية ومرجعيتها، أن نشوء أي حضارة استوجب ثلاثة شروط، وهذا ينطبق على الإمبراطوريتين، الرومانية والإسلامية، وغيرهما. أرض شاسعة واسعة متكاملة ومتناسقة، أناس بعدد كاف يسكنون هذه الأرض ويعملون فيها، تجمعهم قواسم مشتركة، فترة زمنية كافية من السلم، حتى تستطيع شعوب هذه الأرض أن تبني حضارة مشتركة. هذه حقيقة أشياء بسيطة ومنطقية، ولا نحتاج لجهد كبير حتى نُقنع بعضنا بصوابها.
لو أردنا تطبيق هذه الشروط على أوضاعنا العربية، لوجدنا أننا بأيدينا أنهينا كل هذه الشروط، وكأننا لا نريد أن ننتمي لأي حضارة، ولا نريد أن ينشأ عندنا أي مستقبل لأبنائنا. لنا في الوطن العربي أرض شاسعة، متناسقة ومتكاملة، وتحوي ثروات متنوعة، من المعادن والزراعة والماء والشمس والهواء وغيرها، ولكن هذه الأرض قُسمت إلى 22 قطعة، مُحاطة بحدودٍ لا يستطيع حتى الذباب تجاوزها، وكأن هناك من يريد أن يمنعنا من الخروج من الأقفاص التي وُضعنا فيها.
عندنا أيضاً الشعب الكبير العدد، والمتناغم اللغة والعادات، وأغلب الأحيان المُعتقدات، 400
تتوفر إذن للأمة كل شروط الحضارة، لكن الأمة نفسها دمرتها بأيديها، وقد نقول أيضاً بسبب الاستعمار وتدخل إسرائيل والقوى الأخرى، لكن هذا ما كان ليحصل، لو حققنا شروط الحضارة فيما بيننا، بدل التقاتل والتجزئة.
حقق الاتحاد الأوروبي الشروط اللازمة لبناء حضارة عريقة، فهناك الأرض الشاسعة، ولو كانت أقل ملاءمة وتكامُلاً من الأرض العربية، وهناك 500 مليون مواطن، ولو كانوا أقل تناغماً وتشابهاً من الشعوب العربية، فهؤلاء يتكلمون لغات عديدة، وينتمون لحضارات مختلفة، لكنهم أمنوا لأنفسهم الشرط الثالث: أكثر من سبعين عاماً من السلام الداخلي الدائم، بعد أن قسمتهم ودمرتهم الحروب العالمية الأولى والثانية وما سبقها، ألف عام قبل تلك الفترة، لم تعرف أوروبا يوماً واحداً من دون حرب. والولايات المتحدة الأميركية أمنت الشروط الثلاثة، من شعب كبير 320 مليونا، على أرض شاسعة وشعوب مختلفة عرقياً ولغوياً، لكنها تعيش بسلام داخلي منذ عشرات السنين. قد نرى الشيء نفسه إزاء الهند أو الصين الحديثة أو إزاء البرازيل.
لن يستطيع العرب بناء حضارة، كل على حدة، وداخل أقفاصهم الصغيرة، حتى لو امتلكوا البترول والذهب والفضة. لن يستطيعوا بناء شيء ذي معنى، إلا إذا جمعوا أرضهم في أرض واحدة، وشعوبهم في أمة واحدة، وأنهوا حروبهم الداخلية العقيمة، وأسسوا للسلم الداخلي، الدائم والطويل، المبني على العدل والمساواة بين الناس، مهما كانت طوائفهم ولغاتهم وأعراقهم.
تُبنى الأوطان المُتحضرة الحضارية بسواعد أبنائها، خصوصاً الذين يُوفرون لها شروط
ولنذكّر بالحلم الأوروبي لفيكتور هوغو، مؤلف "البؤساء"، في خطابه أمام مجلس السلم العالمي في باريس، عام 1848، أي قبل أكثر من قرن على بناء الاتحاد، والذي تلته وسبقته حروب ضروس بين بعض دوله. قال الكاتب العالمي، وأمام سُخرية بعض الحضور: "تقولون اليوم وأقول معكم، كلنا هنا نقول لفرنسا وإنجلترا ولبروسيا وللنمسا ولإسبانيا وإيطاليا وروسيا، نقول لهم: سيأتي يوم تسقط فيه الأسلحة من أيديكم، يوم ستبدو فيه الحرب سُخفاً، وستكون مستحيلة بين فرنسا وبريطانيا، وبين سان بطرسبورغ وبرلين، وبين فيينا وتورينو. سيأتي يوم، لا تكون هناك ساحات قتال، وإنما أسواق مفتوحة، للتجارة وعقول تتفتح للأفكار، سيأتي يوم تُستبدل فيه القنابل والرصاص، بالانتخابات وبالاقتراع، بالتحكيم المُحترم لهيئة مُستشارين عُظمى، تكون بالنسبة لأوروبا، مثلما هو البرلمان بالنسبة لإنجلترا والمجلس التشريعي لفرنسا.
من هنا فإن هدف السياسة العظيمة، السياسة الحقة، هو الاعتراف بكل الجنسيات، وإعادة إحياء الوحدة التاريخية بين الأمم، وجمعها كلها في حضارة واحدة، هي حضارة السلام، جماعة حضارية واحدة، تُضرب مثلاً للأمم التي لا تزال بربرية متوحشة، ليكون للعدل الكلمة العليا والأخيرة، التي كانت في الماضي للقوة".
تحقق حُلم فيكتور هوغو، بعد قرن من خطابه، وبعد ملايين القتلى الذين سقطوا في الحروب العالمية بالقرن العشرين. هل نستطيع بأمتنا العربية، أن نوفر علينا هؤلاء القتلى، وهذه السنين الضائعة؟