منذ أيام أطلقت شركة Niantic, Inc. الأميركية التي تأسست ضمن مجموعة غوغل واستقلت عنها السنة الماضية بالشراكة مع شركة The Pokémon Company اليابانية، لعبة الهاتف المحمول Pokémon GO وهي لعبة تفاعلية من نوع الواقع المعزز Augmented Reality؛ أي أنها تدمج بين الواقع والافتراضي في طريقة اللعب. اللعبة أطلقت في أميركا وأستراليا وبعض دول أوروبا وآسيا، ولاقت نجاحًا كبيرًا وانتشارًا واسعًا.
في الأيام الأخيرة، بدأت بالانتشار في بعض الدول العربية بالقوة نفسها. وحسب صحيفة "أميركا اليوم"، فإن استخدام اللعبة تجاوز نسبة استخدام تطبيقات اجتماعية مثل سنابشات والإنستغرام والتندر والواتس آب.
اسم بوكيمون جاء من مصطلح Pocket Monsters، ومعناه وحوش الجيب. والانتشار، برغم أنه كبير وواسع، إلا أنه ليس صادمًا؛ فهو استكمال لنجاح فكرة ألعاب البوكيمون التي بدأت في نهاية التسعينيات، وصدرت على شكل ألعاب فيديو وأفلام تلفزيونية ومسلسلات كرتونية، ومنتجات مختلفة من الألعاب والهدايا والبطاقات. واستمر إنتاجها حتى وصلت الجيل السابع في فبراير/ شباط من عام 2016 تحت عنوان Pokémon Sun and Moon، بمعنى أن أجيالاً متعددة تابعت وواكبت هذه الأفلام الكرتونية والشخصيات وكل ما يتعلق بها. لذلك سنجد أن من يلعبون ويتعلقون بهذه اللعبة، هم من أجيال متعددة ومختلفة.
لاقت الشركة العديد من الانتقادات، كان أكبرها يتعلق بالخصوصية؛ إذ يُطلب من المستخدمين التسجيل في اللعبة عبر حساب غوغل. وكانت آلية التسجيل باستخدام أجهزة IOS تتطلب وصولاً كاملاً إلى بيانات الحساب.
وعلى إثر هذه الانتقادات والتخوفات، وبعد أن حصدت الشركة ارتفاعًا في الأسهم يعادل عشرات المليارات، نشرت على موقعها توضيحًا يؤكد أن تحميل التطبيق لا يصل إلى كافة البيانات الشخصية ورسائل البريد، ويستخدم المعلومات الأساسية فقط، مثل الاسم والبلد وعنوان البريد، وبالأمس نشرت تحديثًا للتطبيق على المتجر الإلكتروني لا يتطلب التسجيل بالبيانات كاملة.
حتى الآن، كل شيء يسير في سياقه، الذي بات طبيعيًا بعد الاعتياد على الطفرات التكنولوجية التي تحدث كل يوم، لكن ما هو طبيعي في عالم التكنولوجيا والفضاء الإلكتروني لا يبدو طبيعيًا في العالم العربي، فكل ما هو حديث يعيد ما هو قديم إلى الجدال والأطروحات والنظريات التي تتحدث عن المؤامرة والخيانة وخدمة العدو، وبعضها أيضًا يتحدث عنها من منظور ديني.
قبل أكثر من عشر سنوات، حين بدأنا بمشاهدة مسلسل الكرتون، انتشرت معه القصص المتعلقة بأنه صهيوني مدسوس من أجل غسل عقول الأطفال، ومع هذه الادعاءات والخرافات التي كنا نسمعها من المدرسين وخطباء الجمعة، انتشرت أيضًا أوراق توزّع على أبواب المساجد والمدراس والبيوت تفيد بأن اللعبة صهيونية وفيها كفر شديد، وأن أسماء الشخصيات الموجودة فيها ما هي إلا أسماء يهودية أو مسيحية.
كانت الورقة عبارة عن جدول طويل تضع اسم الشخصية/الوحش على اليمين وعلى اليسار معناه. فمثلاً كلمة بوكيمون كان مكتوب معناها "أنا يهودي" واسم "بيكاتشو" كان يعني "لا إله في الكون"، أو "كن يهودياً"، واسم "بولباسور" كان معناه "أتمنى أن أكون يهوديًا" واسم "سلوبوك" يعني "اعبدوا الشيطان".
وهكذا تجد في الورقة العديد من أسماء الشخصيات الموجودة في المسلسل الكرتوني وفي مقابلها المعاني التي تدور كلها حول اليهودية والدين ونفي الإله والتوحيد والعذاب.. إلى آخره.
كانت هذه الأوراق الصغيرة التي توزع هنا وهناك؛ تشكل رعبًا حقيقيًا، خصوصًا إذا صدقها الأهل، إلا أنها لم تمنعنا من فتح التلفاز ومشاهدة المسلسل والاستمتاع به، كما يبدو أن استرجاعها الآن لن يمنع الكثير من الناس من اللعب والاستمتاع، بل على العكس فهذه النوعية من الخطابات لن تكون إلا محل سخرية عن الأجيال، التي تعاقبت على مشاهدة المسلسل وتحمست الآن إلى مشاركة اللعبة الخاصة به.
الأمر الآخر هو التحذيرات، التي تسعى إلى ترهيب الشباب من اللعب، كلها تحذيرات تتحدث عن مؤامرة دولة الاحتلال وأميركا من أجل جمع البيانات والصور، وتتبع حركة الناس ورصد المواقع المهمة في الدول، بالطبع أصحاب هذا الخطاب ينسون ما اعتادوا عليه من أنهم يكتبون تحذيراتهم هذه باستخدام اللاب توب والإنترنت والفيسبوك والهاتف المحمول، الأجهزة والخدمات التي كلها متصلة ببعضها، ومتصلة بشبكة أقمار صناعية وخوادم إنترنت مفتوحة على بعضها، لا تحتاج الجهات التي تقف وراء مؤامرتهم المزعومة إلى هذه اللعبة كي تعرف عنا أكثر.
فمثلاً، تجدهم يتوجسون من التسجيل في حساب غوغل، وكأن الشركة هي شركة خاصة بهم يضمنون خصوصيتها، في الوقت الذي لا يضمنون به خصوصية شركة نانيتيك التي أطلقت اللعبة، والأمثلة على هذه كثيرة، إلا أن كل حديث يجد دائمًا خطاباً قديمًا يقابله، ويجد أيضًا من يرفعون ويروجون لتلك الخطابات بلا دراية أو بحث، وكلها من نوعية "اللهم بلغت.. اللهم فاشهد".
بالطبع ما سبق ذكره لا يدعو إلى عدم الحذر ولو قليلاً، إلا أنه يدعو إلى التفكير، في كيفية اقتباسنا لفتاوى وأحاديث وخرافات لم تعد مقنعة لهذه الأجيال، التي انفتحت على العالم من خلال هذا الفضاء الواسع، وفيه دعوة إلى إعادة التفكير بكل ما يعتقد أصحاب خطاب "درء المفاسد وسد الذرائع" بأنهم بذلك يجلبون المنافع، وهم لا يجلبون سوى الخرافات بالترهيب والتخويف.
ولأن الحجج لديهم ليست قوية، ولأنهم ليس لديهم ما يعادل هذه الطفرات التكنولوجية ويوازيها في المعرفة والقدرة، يتم اللجوء دائماً إلى خطابات من هذا النوع، لن تؤثر في ميل الناس إلى رغباتهم، ولن تكون إلا بابًا جديدًا من أبواب السخرية.
ففي الوقت، الذي تمتلك فيه غوغل والشركات الكبرى في مجال المعلومات عشرات الأقمار الصناعية التي تصور كوكب الأرض كاملاً من الغلاف الجوي وحتى أبواب منازلنا، وبدأت بتغطية القمر والمريخ أيضًا، وفي وقت يضم فيه فيسبوك مستخدمين يعادلون أكثر من سدس سكان العالم، يبدو ساذجًا أن نواجه العالم بأوراق صغيرة نطلب فيها الانتصار للدين والابتعاد عن الألعاب، أو بأفكار حول نظرية المؤامرة وتخوين من يساهم فيها.
(فلسطين)